الاثنين، 21 يناير 2019

#تذكرة #سفر،،،بقلم فادية حسون

** #تذكرة #سفر **
أغلقت حليمة باب غرفتها المستأجرة فوق سطح إحدى العمارات القديمة في ذاك الحي الشعبي القديم وسط العاصمة مراكش ... وكعادتها عندما يهبط المساء .. أسدلت الستارة الرثة التي تنسدل باستسلام مقيت على نافذتها اليتيمة ...رمت نفسها فوق سريرها ذي النوابض الصدئة محاولة صم أذنيها عن الضوضاء في الخارج ... صوت مذياع المعلم جابر الذي يجلجل عاليا بأغان هابطة المستوى ... فيلوث فضاء الحي ... وصوت جارهم الذي يزأر عاليا لإيواء حماماته الشاردات هنا وهناك ... وأولاد الحي الذين لم يرووا نهمهم للعب بعد ... شعرت حليمة بصداع شديد بعد يوم عمل طويل في المطعم القريب من منزلها تخللته نبرات حادة من صاحب العمل .. نخرت عتبات إنسانيتها المتهالكة فوق ركام بؤسها وشقائها ...كانت روائح الطعام في المطعم لاتزال تسيطر على مخيلتها الشمية فتفقد الشهية للطعام ولأي شيء آخر ... عشرات من صور القهر تتوارد يوميا على شاشة دماغ حليمة حين تأوي إلى خلوتها المعتادة ... فتتذكر جنازتي والديها اللذين توفيا تباعا بفارق سنة واحدة .. وصور أخوتها وزوجاتهم الذين استنكروا وجودها بينهم واعتبروها عبئا ثقيلا يرهق متونهم ... وصراخ صاحب العمل الذي ينعق في أذنيها كبومة اعتلت شجرة حور شاهقة ... أفاقت من شرودها على نغمة رسالة مصدرها (المسنجر ) من جوالها الذي مازال يركن داخل محفظتها الملقاة على كرسي القش الذي بجوارها ... قفزت اليه بعد ان رسمت ابتسامة الخلاص على وجهها الكئيب ...
لابد انه ابراهيم ...هكذا حدثتها نفسها .. فتحت الجوال بلهفة الغريق الذي عثر على طوق النجاة ....إنه حقا ابراهيم ... الرجل الذي أشغلت قلبها به رغم بعد المسافات ...كان ملاذها الوحيد في هذا العالم الكئيب ... وكان مصدر سعادتها الذي يبدد كل مافي حياتها من أحزان وهموم ... ظروفها القاهرة كانت مشجبا أعمى .. تستخدمه لتعلق عليه أخطاءها في التواصل مع رجل لا تربطها به أية علاقة شرعية ... كانت تسرف في إمضاء ساعات في التواصل معه كل ليلة ...وتستمتع بوعوده لها بالزواج حالما تحضر اليه الى حيث يقيم في بلده سوريا ... كانت حليمة تشقى كل اليوم لجمع تكاليف السفر الى ذاك السراب الذي يلوح في أفق المستحيل ... لكن مصادر الذل والقهر التي كانت تحيط بها كانت تحفزها على الصمود والاصرار على الذهاب الى حلمها الذي صورته بأبهى الحلل .. إقترب وقت أذان الفجر وماتزال حليمة تعب من معين أحلامها القابع خلف حدود بلدها ... وتستمطر مخيلتها كي تمن عليها بأعذب الصور لزواج قد يكون نهاية لشقائها وبؤسها ...كانت قبل نومها وفي كل يوم تعد نقودها التي أخفتها في حشوة وسادتها بين الأقطان ... لتتأكد من مدى جاهزيتها للسفر الى ذاك الحلم ... وبعد سنة من الشقاء والكد .. استطاعت حليمة ان تجمع ثمن تذكرة السفر مع الاحتفاظ بمبلغ معقول قد تحتاجه في غربتها ... إذ أن حياءها قد يمنعها من طلب النقود في بداية زواجها .... تأهبت حليمة للسفر .. جهزت حقيبتها التي حشدت بداخلها كما هائلا من الأحلام .. اشترت ثوبا أنيقا كانت تراه كل يوم معلقا في إحدى واجهات المحلات يرمقها باشتهاء وكأنه يخبرها : لن يليق بي سوى قدك المياس .. ذاك الثوب كان أحد أحلامها المؤجلة ... واليوم جازفت وامتلكته .. كان الثوب الوحيد الذي أنفقت عليها مبلغا كبيرا .. حتى تبدو أكثر جمالا واناقة في عينيه ...صعدت حليمة إلى الطائرة المتجهة إلى سوريا ... مع كل درجة من السلم كانت تتمتم بدعوات مصحوبة بخفقان شديد في قلبها المذعور .. لم تكن تعرف مصدر خوفها هل لأنها المرة البكر التي تطأ فيها قدماها سلم الطائرة ... أم ان المجهول الذي ينتظرها هناك هو سر هذا الاضطراب الذي لم يسبق لها أن شعرت به من قبل ... جلست في مقعدها ... أوثقت حزام الأمان ... كان نظرها متسمرا في النافذة التي تطل على آخر المشاهد من أرض وطنها ... نظرت محدقة وكأنها تريد ان تحتفظ بأكبر قدر ممكن من الصور ... وأخيرا تحركت الطائرة ... كانت تتأرجح في مقعدها كنعجة ذبيحة تقاوم خروج الروح منها ... وقلبها يخفق باضطراد مع ارتفاع الطائرة في فضاء مراكش ... وداعا قبر أمي .. وداعا قبر أبي .. فقط هاتان الصورتان تبادرتا إلى ذهنها المكلوم لحظة الانطلاق .. إذ لا شيء يربطها في هذا المكان سوى ذكراهما الجميلة ... حاولت ان تتذكر أخوتها لكن صور قسوتهم نسفت تلك الذكرى فطوتها غير آسفة ... انتشلتها صورة ابراهيم الماثلة في قلبها وعقلها من حالة الاضطراب التي تعتلي روحها .. فكفكفت عبراتها وابتسمت متطلعة الى شاهقات القمم التي تتقزم أمامها كلما علت الطائرة في الفضاء ... دخلت بين الغيوم ... حاولت أن تعرف سر انغماس القطرات في بطنها .. شعرت انها ولجت الى عالم خلبي بهيج ... كان نظرها موزعا بين نافذة الطائرة حينا ... وبين مرآتها الصغيرة التي استقرت في قعر كفها حينا آخر لتطمئن على سوية جمالها كل لحظة .. وأخيرا وصلت إلى مطار دمشق الدولي .. كانت قد أرسلت بعضا من أشواقها لتعبد الطريق أمام أحلامها .. ولتكون اول من تصافح ملامحه التي استساغتها جوارحها ... كان ينتظرها بفارغ الصبر .. رجل مصمم على مقاس أحلامها التي جعلتها تترك وطنا بأكمله لتأتي اليه ...اقترب منها .. سلم عليها... نعم إنه هو .. الرجل الذي أحبته .. فارس الأحلام المرتقب .. حمل حقيبتها ومشيا معا .. كانت كل لحظة تسترق النظر اليه بوجهها المحمر خفرا وحياء .. وهو يحاول أن يكسر حاجز الارتباك الذي قرأه على محياها .. فيسألها عن رحلتها وعن حالها ... ذهب بها حالا الى المحكمة الشرعية وعقد قرانه بها وأصبحا زوجين حقيقيين ... عاشت حليمة معه اول شهر وكأنها ولجت الى جنة سندسية الملامح ... لم يساورها أدنى شعور بالندم لما فعلته من ترك بلدها واهلها ومجيئها الى بلد غريب ... ولكن وبعد ذاك الشهر ..سقط قناع ابراهيم .. وأصبح يعاملها بذل ومهانة .. واكتشفت حليمة على عكس ما أخبرها ان لديه زوجة واولاد .. حيث أخذ يسلط أولاده لايذائها حتى تنفر وتطلب الطلاق ... كانت حليمة في حالة ذهول .. إذ كيف لصرح أحلامها ان ينهار مرتطما بصاعقة هي حقيقته التي احتجبت عنها لفترة طويلة ..وكيف عليها أن تستوعب هذا الكم الهائل من الألم الذي اعتلى أيسر صدرها ... جردها من كامل نقودها .. واستخدمها في مشروع واعدا إياها ان يدر عليها ربحا وفيرا ... وفجأة رات نفسها وحيدة ... شعرت انها امرأة بلهاء ... كانت تتذكر كل لحظة قسوة إخوتها وتتمنى لو تقذفها الأرض الى هناك .. حيث أهلها ...حيث ارضها .. اشتاقت لضوضاء حيها .. ولصراخ المعلم جابر .. ولتأنيب صاحب العمل ... اشتاقت لغرفتها التي ودعتها على امل ألا تعود ...ولضجيج مربي الحمام الذي كان اكثر شيء يؤذي غشاء طبلها ... استيقظت حليمة ذات صباح لترى نفسها على رصيف بائس تمكث بجانبها حقيبة فارغة من أحلامها التي أفرغتها في مصب دناءته ونذالته ... بكت حليمة بحرقة .. وهي تتحسس باقي نقودها التي لاتكفي لشراء تذكرة سفر....
بقلمي فادية حسون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق