الأربعاء، 30 يناير 2019

وتلتها سبعون عجاف ...بقلم الأديبة السورية فادية حسون.

وتلتها سبعون عجاف ...
هربا من وسائل الإعلام ونشرات الأخبار التي باتت تطرق رأسه بإزميل الخيانات والخيبات ... جلس الحاج أحمد أمام منزله في إحدى دول اللجوء بهيئته الجليلة التي تحدّث عنها لحيته الشيباء ... ووشاح رأسه الأبيض .. (وعكاله) الأسود .. ووجهه الذي حفرت فيه سنون الاغتراب أخاديدا وسواقي جف ماؤها لأنها لم تُروَ بدموعه المحبوسة على مر السنين.. فقد علّمه والده أن دموع الرجال يجب ألا تراها النساء... أسند الحاج أحمد خده الأيمن على عكازه الذي أحكم عليه قبضته بشدة وكأنه يحافظ على رفيق العمر ويخشى أن يتركه وحيدا في زمن غادرته فيه قوته البدنية ..وخارت قواه في حضرة القضية الشائكة.. لاتزال كلمات والده ترن في أذنه حين أصرّ على والدته ألا تأخذ معها كل الأشياء حين غادروا ديارهم راغمين .. فالعودة قريبة...!!
بدأ الحاج أحمد كعادته القديمة استعراض صور ذاك اليوم العصيب التي أبت إلا أن تبقى مخزّنة على بطاقة ذاكرته الوفية والمكتظة بصور تحتل المقاعد الأولى من الذاكرة رغم تعدد السنين... يذكر الحاج أحمد فجر ذاك اليوم حين أيقظه أبوه هو وأخوته بعد ليل مضنٍ تسيّده صوت الرصاص من كل جانب.. ونخر الذعر قلوبهم البريئة .. وفتت أحلامهم الصغيرة .. كانت القرية مستنفرة بأكملها والأصوات تتعالى .. والنساء ينطقن بعبارات الرجاء لله عز وجل أن يتلطف بأولادهن.. والرجال كان جلّ همهم المحافظة على الاتزان والتماسك في حضرة العاصفة الهوجاء.... أما الأطفال فقد كانوا منهمكين بلملمة ألعابهم البسيطة في حين تتسيّد وجوههم ألف إشارة إستفهام مسبوقة ب لماذا ؟ كيف ؟ إلى أين ؟ .....
يذكر أحمد أنه تسلل بخفة إلى بيارة الليمون بجانب البيت وقطف بسرعة ليمونتين ودسهما في كيسه القماشي الذي كان يضع فيه كتبه حين يذهب الى شيخ الكتّاب ليتعلم القراءة والكتابة.. إحساس غريب اعتلى قلب الصغير أنهما ستكونان آخر ليمونتين يتذوقهما في حياته من تلك الشجرة التي كان يعشق المكوث تحت ظلها برفقة أصحابه ناصر وعلي وحسين ... كان فكره مشتتا يبحث عن رفاقه الغائبين عن عينه..وعن شيخه الجليل ...وأدوات لعبه.. وكرته التي كان يلعب بها مع أخوته وأصحابه .. تلك الكرة التي صنعوها بأيديهم وهي عبارة عن جورب قديم حشوه بعض بقايا الأقمشة المتبقية من الاثواب التي كانت تخيطها أمهم بماكينتها اليدوية القديمة... كل ركن في ذاك المنزل الريفي البسيط كان منقوشا في ذاكرة أحمد..ولم تستطع سنون الغربة أن تمحو أثره... كان المسير بعد صلاة الفجر ...والطريق طويل معبّد بدموع النساء وبكاء الأطفال وحسبلة وحوقلة الرجال .. كان أحمد يقرأ في وجه أمه رغبة بأن تمتلك مئة يد لتمسك بأولادها وتتأبط أشيائها وتمسح عبراتها..وتمسك بأبيه حين تتعثر ...الصورة الضخمة التي تمركزت في مخيلة أحمد هي صورة وصولهم الى بلد الجوار واقتيادهم الى أحد مخيمات اللجوء التي أقيمت خصيصا لإيوائهم ... يذكر وقتذاك أنه رأى دمعة تسللت خلسة من بين جفني والده أحرقت الأخضر واليابس.. أضعفتهم جميعا وأخذوا يجهشون بالبكاء ..منذ ذلك الحين أقسم والده أنه سيعتنق القوة والثبات الى ماشاء الله..
احتاج أحمد إلى الكثير من الوقت كي يقتنع أن الخيمة أصبحت منزلا.. لأن صورة بيته لاتزال عالقة في ذروة وجدانه...
ومضت السنون... وتعاقبت الأجيال...وتوالت الخيبات إثر الخيبات....كبر أحمد وأصبح معلما في مدرسة المخيم.. كان همه الوحيد ابقاء الوطن حيا في قلوب تلاميذه.. وكان يستمد الامل من عبارات والده التي كانت تعبق بالحكمة والقوة... كان يستغرب أحيانا قوة ابيه وصبره وقدرته على فلسفة الألم وتحويله إلى أمل .. تزوج أحمد من هيفاء فتاة أحلامه..وأنجب منها أربعة أطفال كبروا وتعلموا وتزوجوا... توفي أبوه وأمه في أرض الغربة... يذكر أحمد آخر كلمات كان يرددها والده قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة: إياكو تساوموا عالكُدس يابا.. الكّدس إلنا ومانها لليهود... خلّوا هويتها عربية.. أوعكو تخلوهم يدنسوها....
زفر الحاج أحمد زفرة عميقة مصحوبة بآهٍ أحرقت الأحشاء..
أين أنت يا أبا أحمد لتأتي وترى ماحلّ بالقدس...أين أنت لترى الخذلان يحيط بنا من كل جانب.. القدس أصبحت قاب قوسين أو أدنى من انتهاك عذريتها..والعالم يتفرج.. والبعض يتلذذ بشرب نخب تغيير الهوية..
أيُّ عربٍ أنتم... أيُّ نخوة تدّعون... أين القضية التي ترأست مؤتمراتكم التي كنتم بها تقبضون ثمن دمائنا وتنسجون أكفاننا...
آآآآآه يا أبو أحمد... حمدا لله أنك متَّ قبل هذا...
اعذرني أبا أحمد ... فللمرة الأولى سأخذلك وأبكي... هكذا كان يتمتم الحاج أحمد حين أزاح نظارته ذات السماكة الكبيرة عن عينيه ليتلقف دمعة حبيسة عمرها سبعون عاما...

بقلم الأديبة السورية فادية حسون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق