الاثنين، 28 يناير 2019

قدرُ الله...... قصة قصيرة. ،،،،،،،فادية حسون .

قدرُ الله...... قصة قصيرة.
فتح أحمد باب المنزل بحذر شديد محاولا عدم اصدار صوت كي لا تتنبه فاطمة لقدومه ...فقد كان حريصا على إخفاء ملامح الحزن الذي اعتلى وجهه المرهق ... رمى جسده على سريره وهو يجهش بالبكاء بصوت مخنوق تغوص ذبذباته في حشوة الوسادة ... لاتزال حروف الطبيب تنغرس في رأسه كرؤوس مسامير فائقة الصلابة .. حاول كثيرا النأي بتفكيره عن تلك الحقيقة الكاوية ...ود للحظة لو يفقد ذاكرته عند عتبة ذلك النبأ الموجع ..كلمات قاتلة قالها الطبيب وقعت على قلبه كصاعقة مباغتة : ..(ادعُ لها فأيامها معدودة ..إنه السرطان قد نال من جسمها حد الهلاك ) ...
وفي غمرة بكائه تنبّه أحمد إلى أصوات قرقعة الأواني آتية من المطبخ ..إنها فاطمة ..تحاول كعادتها و رغم أوجاعها أن تجهز الغداء لزوجها وطفليها .. نهض متثاقلا مثل مريض يدنو من حافة الموت .. مسح دموعه ... استجمع قواه ...اتجه نحو غرفة الجلوس .. رآها تمشي ببطء شديد ...تحمل بعض الأطباق بيدين راجفتين هزيلتين ...
ابتسمت ابتسامة صفراء حين رأته وقالت : حمدا لله على السلامة حبيبي ..
قال وقلبه يتفطر ألما : لماذا تتعبين نفسك فاطمة ؟ عليك أن ترتاحي ..
قالت : لاعليك .. لن أتخلى عن مهامي ما حييت ..
جلس يراقب حركتها وهي تروح وتجيء كعجوز هرمة ...
كم فعل بها هذا الداء اللعين ..كم امتص من حيويتها وجمالها ...بالأمس كانت تتنقل كظبية رشيقة ..تملأ المنزل حيوية ونشاطا ... ترتب فوضوية حياته بصبرها وحنكتها وإدارتها الناجحة ... كيف ستكون الحياة بدونها ؟ ..
كيف لقهوة الصباح أن تحتفظ بالنكهة نفسها والمذاق نفسه بعد أن تغيب صانعتها.. هل يعقل أن تتلاشى أنفاسُها من هذا البيت الذي أسساه بالحب والتقوى ؟ ..حاول أحمد نفض رأسه بشدة لعل جبل الأسئلة الرابض فوقه يسقط مشفقا عليه .. كانت يده كل الوقت مشغولة بتلقف الدموع حال تحررها من مجراها كي لا تسيل فوق خده فتشي به أمامها ..وتفضح ما يكنه قلبه من ألم وأحزان ..انتهت فاطمة من إعداد المائدة .. التفتت اليه تدعوه لتناول الطعام ..حاولت قطع شروده وتحديقه باللاشيء .. زادت من حدة صوتها الخافت الذي سرق تواتره التعب ..نهض أحمد ..جلس جوارها ..حاول ان يستدعي شهيته للطعام التي سقطت هناك في عيادة الطبيب .. غصات كثيرة اعترضت طريق لقيماته البائسة ... كان ينقّل نظره بين طفليه اللذين راحت تلقمهما الطعام بيمناها المرتعدة .. سألته بتوجع : ماذا قال الطبيب حبيبي ..هل ظهرت نتائج التحاليل ؟
سقطت الملعقة من يده ..أمسكها بسرعة كي لا يفتضح ارباكه ... تنحنح ..استجمع قواه ..طبع ابتسامة على محياه ظهرت كمسحوق تجميل فشل في اخفاء عيوب وجهٍ دميم ...
جبُنت نفسه عن الاجابة ..فتظاهر أنه لم يسمع سؤالها ..تابع طعامه كسجين أجبروه على طعام تعافه نفسه وجوارحه ...
عاودت السؤال : لم تجبني عن سؤالي أحمد ..ماذا قال الطبيب ..
وكمتهم هارب من قبضة العدالة استسلم أحمد .. قال لها : لاشيء مهم حبيبتي ..إنها بعض الالتهابات المزمنة لكنها ستزول مع العلاج بحول الله وقوته .. قالها وهو خافض رأسه في طبق الطعام وكأن شهيته للأكل استفاقت فجأة ... حاول استراق نظرات خاطفة من وجهها ليرى تأثير كذبته العرجاء ... فكر كم من الوقت سيستغرق مفعول هذه الجرعة من الأمل التي حقن بها روحها التائقة للراحة ... طلبت مساعدته للنهوض إلى غرفتها بعد أن شعرت بإرهاقٍ شديد ...بالكاد وصلت الى سريرها مثل طفل صغير يخطّ خطواته الاولى حذرا من السقوط ... جلست ..وكعادتها حدقت في الجدار ... حيث صورة زفافهما قبل ثمان سنوات ... تلك الصورة لا تبرح مخيلتها أبدا ..فهي تجسد سعادتها مهما كانت كئيبة .. ومهما اعتراها الألم والحزن .. شعرت بنوبة صداع حاد .. ضغطت بكلتي يديها على جانبي رأسها آملة أن تحّد من عنف الألم ...
كان أحمد في غرفة الجلوس ينسج في مخيلته كفنها ..ويحفر قبرها .. ويتخيل جنازتها القاتمة ..وروحه تتقطع ألما.. ويعتريه إحساس بفجيعة تشبه الضربات الاستباقية .. أجلسَ طفليه الى جواره ..ضمّهما بيديه مذعورا كطائر أحس بخطر محدق بصغاره .. تنبه الى صوتها يناديه كي يحضر لها كأسا من الماء لتشرب الدواء المسكن ... هرع الى المطبخ ...أحضر الماء ... دخل الى غرفتها بتوجّس شديد .. انقطع صوتها .. وأنّاتها .. اقترب من السرير .. ازداد تراقص الماء داخل الكأس ..ثم ما لبث أن اختلط بالزجاج المتناثر في أرض الغرفة ..هزّها بشدة وهو يصرخ باسمها ...فااااااااطمة ...
لا تتركيني فاطمة ...انهضي أرجوكِ..فأنا وطفلاك بحاجة إليك ... لكن فاطمة صمتت للأبد .. بوجه نقشت عليه ملامح الوداع الأخير .. وبقيت عيناها مفتوحتين تحدقان في صورة الجدار إلى مالانهاية ...
فادية حسون .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق