الأربعاء، 27 فبراير 2019

قطارُ مُنتصف النهار وليد.ع.العايش

قطارُ مُنتصف النهار _
________
الليل يطوي صفحاته ببطئ ؛ كما تفعلُ تلميذةٌ كسولة كي لا تنال عقابها ؛ تمرُّ النجوم من خلف غيمٍ أسود مُتجمد في السماء ؛ عاثرُ الحظّ يندبُ ليلته بصمتٍ ؛ أما الفجرُ فكان يدنو من ضفّةِ النهر القريبة ...
- إنها ليلة ماطرة يا أم أسعد ...
- هكذا يبدو ... ما لبثت وأن ترنّحت في جلستها المُعقّدة كضفائرِ شعرها الممتزج ببياضِ الأربعين .
- يجب أن استيقظ مع ولوج الفجر ... لديّ عمل كثير في الحقل , علي أن أنهيه قبل أن يحلّ الصقيع ...
مرّ القطارُ كالمعتاد في موعدهِ المُحدد ؛ لم يتأخر كما فعل ليلة البارحة ؛ إذنْ لقد تجاوزت الساعة منتصف الليل ؛ ففي كلّ ليلة يمرُّ من هنا تاركاً أفكارهُ تعبثُ على جنبات السكة ؛ باتَ النومُ ضرورةً لا بدَّ منها في هذا الوقت .
عندما صرخَ الديكُ الأحمر كان أبو أسعد يرتدي ثيابهُ المُلطخة ببعض الوحل , أما زوجته فكانت تُجهّزُ له زوادة الصباح ( أقراص جُبن , حباتُ زيتون , ثلاثُ بيضاتٍ , وخبز أسمر ) ... لَفتّها بقطعةِ قماشٍ ثُمَّ ربطتها جيداً .
استيقظت الدجاجاتُ مُرغمةً , الريحُ تلهو مع أغصان الشجر في حديقةٍ قريبة من البيت , قطيعُ الأغنام يعبرُ بالقربِ منهُ أيضاً , يسبقهُ الكلب المُترنح بمشيته , الحمارُ يتأخرُ أكثر مما يجب هذا اليوم , فيصرخُ الراعي غاضباً .
غادر أبو أسعد البيت حاملاً زوادته القماشية , وخرجَ تاركاً خلفهُ السرير منكوشاً .
- ألم تنسى فأسكَ يا أبا أسعد ...
- لا ... هو هناك في الحقل ... تركته يوم أمس كي لا أحمله اليوم أيضاً ...
- أحضرْ معك بعض الحشائش للغداء ...
هزّ الرجل الخمسينيُّ رأسهُ بالموافقة دونَ أن ينبسَ بكلمةٍ واحدة , صفعتْ الريحُ وجههُ الأسمر, تلاقتْ نظراته مع الرابية التي تُطِلُّ على بيته , أفكار متشعبة تداهمُ ما تحتَ بياضِ شعره ...
- إلى متى سنبقى على هذا الحال ...
- لقد أصابني التعب واليأس ... ( كان حديثه خافتاً آنذاك ) ...
تابعَ طريقهُ وهو يراقب ما حوله من مشاهد تتالى كمسلسل أُعِدّ بعنايةٍ فائقةْ , طرقَ أذنيه صوتُ ناي , وموالُ راع , استمتعَ للحظاتٍ وكأنّهُ لم يسمعهُ من زمنٍ بعيد , تذكّر بأنَّ صوتهُ جميل , فأطلقَ العِنان لموالهِ المُحبب إلى قلبهِ ( يا رايح ع الحقلة ... جبلي معكْ جرزة بقلة ) ...
- أخ ... لو رزقني الله بصبيّ , كان سيساعدني , ويحمل عني بعض أعباء الحقل ...
- سامحكِ الله يا أمّ أسعد ... لو تركتني أتزوج , ألم يكن لدينا الآن حُفنة أولادْ ...
حديثهُ مع نفسهِ لم يكنْ صامتاً , صوته كان أعلى مما يجب ؛ تناهتْ بعض كلماته إلى مسامع الراعي , سحبتها الريحُ عنوة , وساعدت ساعات الفجر على تجاوزها للزمانِ والمكان .
- هههه ... يا أبا أسعد ... أَتُحدِثُ نفسك !!! ...
- سلام يا صديقي ... أيْ واللهْ أُحدِّثُ نفسي ...
- الحقّ عليك ... قلتُ لكَ تزوجْ , لكنكَ عنيدٌ جداً يارجل , ها أنا لديّ ثلاثُ نساء ...
- إذنْ عليكَ بهنّ ودعني وشأني يا رجل ...
انتهى الحديثُ عند مفرق الدرب التُرابي , فلكلٍّ منهما وِجهتهُ الخاصة , وهدفهُ المُختلف عن الآخر .
عبرتْ ساعات الصباح الأولى بسرعة , أخذ التعبُ مأخذهُ منْ أبي أسعد , جَرّجرَ قدميه إلى فُسحةٍ صغيرة , فَرَدَ زوادته القماشية وبدأ ينشرُ ما فيها على التراب .
- آهٍ يا بلدْ ... لقدْ سئمتُ من الزيتون والبيض ... جاري أبو طارق يأكلُ العسلَ بينما أنا آكل ( ....... ) ... صمتَ مُكرهاً .
حضرَ المطرُ طعامَ الإفطار , الرياحُ أيضاً شاركتهُ وليمتهُ الصغيرة , تحسّس صدرهُ المغروس بشعرٍ غزيزٍ كما مطر ذلك الصباح , شرِبَ رشفة ماء , تنهيدةٌ طويلةٌ تتطاولُ كَعُنقِ زرافة , بكاءُ المطر الإلهي يدنو من ذاكَ المكانْ , أفعى مرقّشة ترقصُ على نغم الناي .
- أيها الراعي ... أيها الراعي ... كان النداء طويلاً جداً ...
صدى كلماته يُصافحُ الجبل الأعمى البعيد كالسماء , لم يستجبْ الراعي لاستغاثةِ أبو أسعد , ربما لم تصله إشارة القاطن تحت عنق الجبل .
اشتدَّ الصراخ أكثر وأكثر, تجمهرت بعض العصافير فجأة , العاصفةُ تأتي مُتأخرةً هذه المرّة , السكونُ يُداعِبُ أوراقَ ( السبانخ ) , منذ قليل أمست يتيمة , فألقتْ بنفسها في كيسٍ مخشوشب الحواف .
المرأةُ تنتظرُ الحشائش الطازجة , جهزّت حبات الأرز , انتهتْ للتوِّ من أعمالها اليومية , انتظرتْ طويلاً على ناصيةِ البيت , ترْقُبُ عودة أبو أسعد ...
هناكَ في الأفق الممتد إلى اللانهاية كانت تلوح صورة صبيٍّ اسمهُ ( أسعد ) ....
الراعي يهشُّ بعصاه ويغني بلحنٍ إغريقيٍّ قديم : ( أين ذهبَ أبو ... ) , العصافير تمتطي قطار منتصف النهار ...
__________
وليد.ع.العايش

27/2/2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق