السبت، 25 نوفمبر 2017

روايتي المخطوطة،،احمد بو قراعة

قرّرت نشر روايتي المخطوطة منذ ما يزيد عن أربع سنوات على صفحتي حتّى يطّلع عليها جميع أصدقائي و أحبّائي و سأكتفي اليوم بنشر اللّوحة الأولى واللّوحة الثّانية منها وأنا أزعم أنّها الرّواية الأولى في تونس التي تدور أحداثها في الوسط التربوي فمكانها أحد معاهدنا الثّانوية و شخصيّاتها الإطار التربوي بكل مكوّناته من أساتذة و قيّمين و إداريين و تلاميذ...و أمّا زمانها فبعد ما يسمّى بالثّورة و ما اتت به من بركات أو نكبات على جميع المستويات ...
تنشر الرواية تباعا لوحة إثرها أخرى أرجو لكم متابعة جيّدة تكون حصيلتها إمّا استمتاعكم أو نسيانكم إذا خيّبت الرّواية آمالكم
ليتني أشربُ... بخيالِكَ
الإهداء :
‹‹ هذه سطورٌ قليلةٌ أردْتُهَا اخْتِزَانًا واخْتِزَالاً فإنْ كانَ فيها مَنْ أسأْتُ إليه فَمِنْهُ أَعْتَذِرُ، وإنْ كَانَ فيها مَنْ أَحْسَنْتُ إليه، فَفِي غَيْرِهَا إنْ شاءَ الله سَأَعْتَذِرُ ››

(1)
كانت ليلةً عاصِفَةً مُمْطِرَةً، وكان مع المطر بَرْدٌ لَمْ نَأْلَفْهُ في سَاحِلِ البلاد، إذْ ما كان البردُ يُصيبُنا عادةً إلاّ حينما كُنّا نَستقبلُ البحرَ شتاءً على شاطئ المدينة فَتُرعِبُنَا أمواجهُ و تصفعنا ريحُه. و لمْ يكن ذلك إلاّ لأيّامٍ مَعْدُودَاتٍ يعود بعدها البحر إلى صفائِهِ. لم يكن السَّاحِلُ مَهْبَطَ الأمطار و فِجَاجًا للرّيح والأعاصير ومَنْزِلاً للأنواء والبرد والصّقيع.
كادتْ أشهُر الصّيف تَبْتَلِعُ كلَّ العامِ. ولكنْ هذا العَشِيِّ، عَشِيُّ السّبت، غَيَّمَتِ السّماء غُيومًا ثقيلةً جَمَّعَتْها ريحٌ فيها أَتْرِبَةٌ وغُبارٌ. وما كادت تلك الرّيحُ يهْدَأُ بعضُ غَضَبِها حتّى لحقتْ بها زخّاتٌ مُتَسِارَعَةٌ من البَرَدِ و قِطَعِ ثَلْجٍ صغيرةٍ ناصعةِ البَيَاضِ كالطُّهْرِ يَغْتَسِلُ بالعَفَافِ. بَرَدٌ أخْلَى الشوارعَ من النّاس فَمُخْتَبِئٌ ومَنْقُور على رأسه هارب يحميها بِيَدَيْهِ أو بما حَمَلَتَا من مَتَاع خفيف يجري لَوَاذًا بحائط أو بشجرة.
ورغم كلِّ ذلك كانَ النّاسُ فَرِحِين بِقِطَعِ الثّلج يَفْرُكُونَ بِهَا أيديهم وَ وُجوهَهُمْ مُتْعَةً وتلذُّذًا بِنَادِرٍ لاَ تجودُ به السّماءُ إلاّ جُودَ الواقعِ في الزَّلَلِ والخَطَإِ حياته فقد يعْثُرُ لِسَانُه على غير المألوف مِنه فَيَرْمِي كلمةً طيّبةً أو قد يخرجُ عن غير المَأْنُوسِ في جِلدهِ فَيَشذُّ بِحَرَكَةٍ نَبيلَةٍ... كانت تلك العشيّةُ بِأمْطارها وأنْوائها ورياحها وبرْدِها وصقيعِها وثَلْجِها كأنّها العاهرةُ مَأْلُوفٌ فيها كُلُّ مُنْكَرٍ فَتَّحَتْ إلى جِوَار مَسْجِدٍ بَيْتًا للصّدقات والهِبَاتِ...
و يُقْبِلُ لَيْلُ الشّتاء مُظْلِمًا وطويلا، و يزدادُ البرْدُ برْدًا وتُلاحِقُ الرّيحُ الرّيحَ عَصْفًا وعَسْفًا، وللْمَطَرِ دَكَّاتٌ فوقَ السّطوحِ، وللرّيحِ دَفْعٌ للأبواب و للنوافذ دقّاتٌ، وللمياه في المَزاريبِ جَرْيٌ بِتَعْنيف.
رياحٌ وأمطارٌ وَبَرَدٌ قد تَسْتَبْشِرُ بذلك المَزَارِعُ والحُقول والأريافُ والبوادي، وقد يَحْمِلُ من المدينةِ أوْسَاخَها وأَقْذارَها ومَزَابِلَها إلى المَجاري والبحر ولكن الرّيحَ تبعثُ في النفّسِ الرُّعْبَ وتغْرِسُ فيها الهَلَعَ وتَسْلِبُ مِنْها الإطْمِئْنانَ وتُثيرُ فيها الخوفَ فتنقبضُ كالوِحْدة تَعْصُرُ الألمَ وكالوِحشةِ تَأْتِي بها الغُرْبَةُ وكالذُّعْرِ تأتي به الظُّلْمَةُ فترتعد الأبدانُ وترتعش المفاصلُ في الأجسامِ فَتَبْحَثُ عن دِفْءٍ بِنارٍ أو تحت دِثَارٍ أو فَرْكَةِ كَفٍّ نَاعِمَةٍ تحت فَرْشٍ أو سِتَار أو تدفع ذلك بِشَرْبَةِ شايٍ أو عقار، وكأنّها مَغْبُونَةٌ تبحث عنْ أُنْسٍ تَطْرُدُ به الوحشة أو مَحْرُومَةٌ ترجو ألفة تُبْعِدُ بِهَا قَلَقًا وحيرةً.
كانت البيوت مُغَلّقَةً على آهِليها خَوْفًا واضطرارًا و طَمَعًا في الدّفءِ وجَمْعِ السّاقِ بِالسَّاقِ والتِوَاءِ الأعْناق وكانت الأستاذة كغيرها مِمَّنْ غَلّقت بابها.
لَمْ يكنْ يَظْهَرُ للتَّعَبِ في المرأةِ أَثَرٌ، ولمْ تُحَطْ نفسُها بِذُعرٍ أو بِخوفٍ. نَظَرَتْ إلى طِفْلَتَيْهَا الصغيرتيْن النائمتَيْن إلى جِوارِ بعضِهما نَظَرَ المُعْجَبِ والرَّؤُوفِ بما حَمَلَتْ بَطْنُهَا مُنْذُ عِقْدٍ من الزّمن كالماسِكِ باللؤلؤة إلى جوار الجوهرة ينظُرُ إليهما فيُعْجَبُ ويُسَرُّ بهما و يفرَحُ و يطمئِنُّ عَلَيهما بين يديه، ولكن كُلُّ نَادِرٍ وجميلٍ تَارِكٌ في النّفسِ عِلَلَ وأسبابَ القلقِ والخوْفِ مِنهُ وعليهِ.
قبّلتِ المرأة طِفلتيْها ومَرَّرَتْ رَاحَتَيْهَا على خَدَّيْهِما اطْمِئْنانًا ورَاحَةً وخَفَّفَتِ المصابيح فالنّورُ ذابلٌ وحقيرٌ ثمَّ أغلَقَتْ بابَ الغرفة بِيُسْرٍ لِتَتْرُكَ الصَّغيرتيْنِ لأحلامٍ جميلةٍ ترجُوها لهما.
لمْ تَكُنْ الغُرفُ في هذا الطابق العُلوي كثيرةً أو مُريحةَ الاتّساع. لقد استقرَّت منذ سنوات مع طفلتيها في هذا الجزء العُلوي من المنزل بينما استَقَرَّ زوْجُها "أنيس" في الجزء السُّفْلِي منفردًا بِنفسه في ذلك المكان مُجْتَمِعًا بِزوجته في العمل فقط.
في غرفةٍ صغيرةٍ، رُتِّبتْ كُتُبٌ كثيرة متنوّعة، و على طاولة دفاترُ وأقلام، يبدو أنّ الأستاذة اتّخذت هذه الغرفة مَكانًا للعمل : المطالعة وإعداد الامتحانات وإصلاحها وتعليم البِنْتَيْن مناهِج العمل وتحفيظهما الدروس. و ربّما كان هذا المكان أيضًا ملْجَأً تُحرَّرُ فيه العواطف والأفكار فتسرح في الشعر والروايات والأقاصيص مَهْرَبًا أو تعويضًا أو تحقيقًا لِمَا كان في بعض الكتب من إغْناءٍ عن الواقع أو إثراءٍ لَهُ أو تخلُّصٍ مِنه.
جَالَ بَصَرُ المرأة في تلك الغرفة الضيّقة و لم يكن ذلك البَصَرُ يقع على شيء إلاّ تَرَكَهُ إلى غيره و كأنَّ المكان يزداد ضيقًا وانْكِمَاشًا. رَفَعَتْ رأسها إلى أَعْلَى كمنْ يُريدُ أنْ يخترق بعَيْنيْه السَّطْح. لم يكن يتحرّك من جسدها عضو و كأنّها أفْرِغَتْ في قالَب منْ حديدٍ. و ظلّتْ تُحدِّقُ في الجدران كالباحثةِ عن ثقبة أو نقبة أو فتحة. كلّ الجدران صخرية مطليّة مُحكمة البِناء. سَرَّحَتْ نَظَرَها في الكُتب فتغيَّر لوْنُ وَجْهِها إلى بَهَت كأنّها رَأَتْ جُثَثًا لأمواتٍ أو وقعت على هياكل عظمية قديمة لمجسّداتٍ بشرية. وضَعت كالمُتَوَجّع رَأْسَها بين راحتيها مُحرِّرَةً شعرها الأسود الطويل فأسْدلت الظّلام على الضّياء. و تركتْ المكتبة ثقيلةَ الخُطا ، رأسُها بين يديها كالوَجَعِ يَكَادُ يَنْفَلِتُ من التَحَمُّلِ والتجمُّلُ والتَّصبّر فآهة كَضِعْفِ المغلوب في داءٍ لا يستطيعُ رَدَّ الأَنين و التوجّع والبكاء.
في الجانب الشرقي مِن البيتِ كُلّه غُرفَةُ استقبال بسيطة التأثيث ولكنّها نظيفة وحَسَنَةُ الترتيب. نظافةٌ وترتيبٌ قد يَدُلاّن على قلّة الاستقبال فهي تشكو نُدْرَة الأنفاس البشريّة فيها. فَلاَ عَائِدَ يعود الأستاذة إلاّ أُمَّها تزورُها أحيانا كثيرة زيارة أُمٍّ يضيقُ صدرها بِمَا تُعانيه ابنَتُها البِكْرُ في حياتها. أمّا أبوها فهو لَهَا خصيمٌ ولِبيتِها مُخاصِمٌ. و أمّا الزّوْجُ فَغَالِقٌ باب المَدْخَلِ وله مُراقِبٌ وعَادٌّ له أنْفَاسَ انْفِتاحِه الأربعة من أوقاتِ العمل مُدَرِّسًا و مُدرّسَةً في نفس المعهد.
دَخَلَتْ الأستاذة غُرفة نومها، وظلّت واقفةً يُقلّبُ بَصَرُها أدباشَها وزينَتَها. وفَتَحَتْ بابَ خِزانةِ الملابس. ولأوّلِ مرّةٍ يتحرّك مِنْها عضو : يَدٌ تُلامِسُ أثوابا بكلّ رفْقٍ و تُباعِدُ بينها كأنّها تَبْحَثُ عن مفقودٍ أو متروكٍ. ثمّ صارت تُرتّبُ تلك الأثواب ترتيبًا آخر : منْ لباسٍ قديم كان يَحْتَرِمُ جِسْمَها إلى متحوّل فضْفَاضًا يَسَعُ مِثْلَيْها، لقد صارت امرأةً أشْبَهَ جَسَدًا بالفتياتِ...
كانت تلك الغرفة أيضًا نظيفةً جدًّا. و من وراء أستار النافذة يجَاهِدُ الخَشَبُ الرّيحَ والبَرْدَ عَلّهُ يَمْنَعُ اقتحام الصّقيع و تَسَرُّبَهُ. و إلى جانب السّرير الذي اتّخذته فِراشًا لا يسع غيرها طاولةٌ صغيرة عليها جهاز تلفاز صغير. استلقت المرأة على فِراشها دون أن تُغيّر بَعْدُ ثيابَ عملها. أضاءت التلفاز ولكنّها أَشَاحَتْ ببصرها عنه. لم تَكُنْ الأستاذة سوى بَصَرٍ يتحرّك من مكان إلى آخر كأنّها تبحث عن شيء مفقودٍ، شيء في داخلها أَنَّى لِبَصَرِها أنْ يُسْعِفَها بوجوده.
خَارج البيت مَا عَادَ المَطَرُ يهطُل وسَكَنَتْ الرّيحُ وهَدَأَتْ العاصفة. بقيّةٌ مِنْ رَذَاذٍ تُصَيّرها الأنسامُ لَذْعًا ولَسْعًا. و لمْ تَكن الغُرْفةُ لتنْجو من ذلك فبالرُّغْمِ مِنَ الخَشب والحديد والسّتائر كان للبرد رَعْدةٌ ورَعْشةٌ. واستقامت المرأة تَارِكَةً سريرها لِتقول : " لعلَّ اللّيلَ قَدْ وَلَّى أَكْثرُهُ أوْ يكادُ ".
وأخيرًا تَحرّكَتْ شَفَتاها ونطق لِسَانُها : اللّيل والسّاعات والوقت والزّمن، وهل الإنسان إلاّ هذا الزّمن الذي يأكُلُ أيّامه ويَطْوِي حياته ؟ وهل الأحداث والأفعَال إلاّ زَمَنٌ قد مَضَى فيه مَا فيه وآتٍ لا عِلْمَ لكائن بِمَا يُخْفِيه، و مَا هذا الكائن إلاّ لحظَةٌ حَاضرةٌ متسارعةٌ إلى مَاضيه.
كانت تظُنُّ أنَّ اللّيل قد طَوَى ساعاته و أنّ الفجر قريبُ اللّيَاحِ وعَمَّا قريبٍ يطلع الصّباح. و لكن لِلَيْلِ الشّتاء ثقل وامتدادٌ وطُول. لقد فاجأَتها ساعتُها اليدَوِيّةُ بالعاشرة مَسَاءً، فنظرتْ في هاتِفِها كَالمُتحقِّقِ فإلى السّاعة الحائطيّة...إنّها اليقين.
كانت كالمُحَاطِ بالأعداء ينْتَظِرُ صديقًا يطلّ أو رفيقًا يهلّ فيُشْعِرُ بالأُنْسِ وبالأُلْفة. ومَا بَدَا عليها تَعَبٌ أو نَصَبٌ وَمَا نَالَ مِنْها عَيَاءُ النّهارِ. لقد بَدَتْ مُتأهِّبَةً لِكُلِّ شيء. سَكَنَ في الخارج كُلُّ شيء وتحرّكَ فيها كُلُّ شيء. عاودها النّشاطُ فتحرّكت خَفيفةً ورشيقةً تَمْلأُ المكان حياةً لينشَرِح بَابُ غُرفةِ الاستحمام بعد زمن عن جَسَدٍ مُكْتَمِلٍ مُتَنَاسِقٍ. شعْرٌ مُبَلَّلٌ مُنْسَدِل على كَتفيْن لا يسْترهما سَاتِرٌ. لِحافٌ توسّطها إلى الرُّكْبَتَيْنِ. كانت تنظر إلى جِسْمِها العاري فَتَتَحَسَّسُه بِأَناملها الرقيقة. وتُمرِّرُ رَاحَتيْها الصغيرتين عَلَى نهديها الصّغيرتين أيضًا كرُمّانٍ صغير ناضِجٍ في عوده لم تَلْمَسْهُ يَدٌ أو تَلْحَسْهُ ريحٌ. وقد تَفْرُكُ فخذيْها فرك النّادِمِ يأتي خَطَأً ولا يستطيعُ له دَفْعًا أو غُفْرانا. نَظَرَتْ إلى جسمها طويلا. جسمٌ يَقْطُرُ عُذُوبةً ويتقاطر مِنه الماء. غَضٌّ طريٌّ مُتهافِتٌ.
و عادَتْ تَنْظُرُ إلى الجدران وإلى الأبواب والنّوافذ...الصّخر والخشب والحديد وحمرة الجسد الملقيّ كاللّهيب فوق السّرير. و مَدَّتْ يَدًا إلى كأْسٍ تُريدُ مَاءً فما كان به مَاءٌ، وأضاءَتْ جهازًا إلى جوارها فانبعث صوت حزين مُطْرِبٌ مُوغِلٌ في الأسى والبكاء يردّد أغنية الوَجَعِ :
عُدْتَ يَا يومَ مولدي عُدْتَ يا أيّها الشقيّ
الصِّبَا ضَاعَ من يَدي وغَزَا الشيْبُ مفرَقي
لبت يا يوم مولدي كنتَ يومًا بِلاَ غد
ليت أنّي من الأزل لم أعش هذه الحياة
عشت فيها ولمْ أزَلْ جاهِلاً أنّها حياة
أنا عُمر بلا شباب وحياة بلا رَبِيع
أشتري الحبّ بالعذاب أشتري فَمَن يَبيع
أنا وَهْمٌ أنا سرابٌ
وَهَدَأَتْ كما هَدَأَتْ الرّيحُ في الخارج. ولعلّها قد نَامت...
(2)
عَشِيَّةَ السّبت فتْرة قصيرة من الزّمن يرجو النّاس طولها، وتفرحُ بها الشوارع، وتُحبّها الدّكاكين والمحَلاّت والمغازات، فيزدَانُ قلبُ المدينة بِالوجوه الضاحِكة والعُيون الجميلة وتتجمّلُ الشّوارع وتتزَيَّى بكلّ أثواب الرّبيع وعطوره...
عشيّة لاَ تحمِلُ سوى الاستبْشار والفرح والسّرور والتّوداد واللّهو والعبث. إنّها فرحة النّفوس في الشوارع تستدعِي بها فرحَةً أخرى في البيوت والمنازل والغُرف ليلاً سَمَرًا ولهْوًا وعشقا وضَمِّ الأليف أليفَه يُشْعِرُه بالدفء والعطف والحنان والحبّ ويُؤصّله في الوجود إحْسَاسًا بِهِ ورَغْبَةً فيه ليَأخُذَ النّاسَ بعد ذلك نَوْمٌ عميقٌ وارتخاءٌ لِمُتْعَةٍ كانت وتَلَذُّذٍ حَصُلَ بالحياة وفيها يَسْلبَانِ الجِسْمَ قُوّتَه وجَهْدَه فيَرْحَل إلى النّعاس والاستغراق فيه حتّى الضّحى أو بعده.
ولكن هل كان للأستاذة حَظٌّ من ذلك جميعًا...؟
لعلَّ المرأة قد وجدت في صوْت المُطْرِب - تنامُ فيه – وفي لَحْنِه وفي كلمات الشعر سَلْوَى و أَشْبَاهًا رَوافِد. ففي الحياة مُتشابهون في كلّ شيء : فَكَمْ مَسَرَّةً تَكَرَّرَتْ ، وكَمْ نَاسًا أَضْناهُم نفسُ الحُزن، وكَمْ مَحاجِر رقرقت لنفس العلّة دُموعًا لو جُمِّعَتْ كانت مُسْتَحَمًّا لِأُمَّةٍ قد كَفَرَتْ فَطهَّرها وأذهبَ عنها غضب الربّ، وكَمْ قُلوبًا لنفس السّبب تَقَطَّرَتْ أسًى ولوعةً وحِرْمَانًا لو حُمِّلُوا ظَهرًا قَصَمُوه.
هي الأغنية نفسها والمعاني ذاتها والشعور نفسه يُعبّرُ عنه النّاس على اختلافهم بِألفاظ متغايرة وبأساليب مختلفة وبحركات متباينة ولكنّ الحُزنَ نفسه والدّمْعَةُ مالِحةٌ أذْرَفَتْها عيْن خُلِقَتْ لتبكي وما عينُ الأستاذة إلاّ من تلك العيون، وما فؤادُها إلاّ من تلك القلوب وما حياتها إلاّ من تلك الحَيَوَاتِ الغابرة والحاضرة والآتية...
إنْ نَامَتْ أنثى مُقْبِلَةً على الحياة في هَوًى أَثْرَى روحَها وأَغْنَى نفسها وأطعم جِسْمَها وأَحْيَى وِجْدانها وزَرَعَ فيها نباتَ الحياة وأيقظَ فيها الرّغبة وأشْعَرَها بالأُنْسِ والرّضى فإنّها تَسْتَقْبِلُ صَبَاحَ يومها الجديد رَاضية مُرضيةٍ وبَاسِمَةً ضاحِكَةً وخفيفةً مَرِحَةً.
وقد تَسْتَعْجِلُ النهوضَ لعلّها قد ارّتوتْ بِماء الحياة فتدفّقَ عُودُهَا عن براعم جديدة طريّة مِن الورد وتفتَّحتْ فِيهَا أَكْمَامُ الزّهور تعبث فوقها الفراشات لاَهية مُطْمَئِنَّةً، و صارَ وجهُهَا بَرِيئًا كوجوه الوِلْدَانِ، وجَرَى حديثها أنهارًا من الرّضى والحبّ والغزل فَتصير بذلك الوَجْه الجميل للحياة.
وإذا نامت تلك الأنثى في نَكَدٍ معزولةً ومُنْفَرِدَةً ومستوحِشةَ الفِراش وغريبةً عن طبيعتها البشرية وطَبعها الآدمي بعيدةً عن ميلها الفطري إلى ذاتٍ ترغب وتعشق وتُحبُّ وتُريد فإنّ أبواب كُلِّ نَارٍ مُهَيَّأة للفتح فتصير الوجهَ المرتبط دائمًا بِالشرّ وبالكائنات المتوحّشة والمُنْحَرِفَةِ والمُنْجَرِفَةِ إلى العِدَاءِ والمريضة والمعلولة والمَسْكُونة بالشياطين والمتأهّبة للخصام تُنفِّرُ النّاس جميعا وقد تَسْتَبْطِئُ الخلاصَ من الفِرَاش لِثِقَلِ القُبْحِ في النفوسِ وأثَرِه في تغيير السّلوك، إلاّ أنّ الأستاذة على لَيْلَتِهَا قد نَهَضَتْ باكِرًا. نَظَرَتْ في المرآة فَرَأَتْ تَعَبًا في عيْنَيْها الجميلتين وأحسَّتْ بِتَعَبٍ في كلّ جسمها. كادت ترى بعينيها التّعبَ في مفاصلها يتحرّك وفي مَنْكَبيْها وفي رُكْبَتيْها يدبّ، حتّى فخذاها قد جَرَى فيهما التّعب والوَهَنُ. شَفَتَانِ جافّتانِ مُحْمَرَّتَانِ كالجميل تُصيبه الحُمّى يُبَلِّلُهُمَا أحيانًا لِسانٌ أَخْرَسُ يَسْتَرْزِقُ مَكْدُودًا مِن ثغره الرّيق والبَلَلُ عَلَّهُ كالنَّدى يُطْعم وُريْقاتِ الزّهور العَطْشَى. وتعضّ أحيانًا على السُّفْلَى بِنَابٍ كالثّلجِ، ثَلْجٌ على نَارٍ.
نظرت في البيت فرأَت كُلّ شيء مُرَتَّبًا ومحفوظًا ومُنَظّمًا. لقد سَنّـتْ في مَسْكَنِها، في ذلك الطّابق العُلوي قانونًا : الحركة والنّظامُ لا يَتَعَارَضَانِ. والنظام أَوْلَى بالتقديم فإِذا تقدّمتِ الحركةُ عليهِ صَارَ الفِعْلُ هَوْشًا وبَوْشًا وخَلْطًا وتَشْوِيشًا. ولقد رَبَّتْ طِفْلتيها على أنّ النّظام صُورة في العُقُول يَتَهَيَّأُ لَهَا الجسدُ بالحركة. ورغم صِغَرِهِما فقد عَلّمَتْهُما أنّ المرأةَ مدينةٌ واسِعَةُ الأنحاء والأرجاء، وأنّ في المرأة مَا في المدينة مِنْ كُلّ شيء، تضيقُ طُرُقَاتُها وتَتَّسِعُ و يتزاحَمُ قَلْبُها فَتَلْجَأُ إلى حَوَاشِيها وأطرافِها، وتهطُل فيها الأمطار فَتَرْتَوِي وتغتسلُ وتعصِفُ فيها الأعاصيرُ والرّياحُ فتَتَّسخُ عَجَاجًا وأَتْرِبَةً وغُبَارًا. وتفرح بالفصولِ فتبحثُ عَمَّنْ يُدْفِئُ جِسْمَها شِتَاءً وعَمَّنْ يُغازلها إذا تعرّتْ صَيْفًا. إنّها كالمدينة لا تَغْتَرِبُ إلاّ شتاء حين تَبرد أعضاؤها وتصقع مَفَاصِلُها فترغَبُ فيمنْ يُبْعِدُ عنها كآبة الشتاء أمّا صيفًا فإنّها مَفْضُوحَةُ الأركان تَرَاها كلّ العيون. إنّها كالأرض لا تُسْقَى إلاّ شتاءً و لا ترتوِي إلاّ خريفًا فَتَخْتَزِنُ في صَدْرِهَا الرّواء فيظهر أزهارًا ووُرُودًا ورياحِينَ وحبًّا وعِشْقًا ورَغْبَةً وَوَلَهًا وحَنَانًا وإثْمَارًا وعَطَاءً ، أمّا الصيّفُ فَمُحْرِقٌ زَهْرَها وَنَبَاتَها.
لَمْ تَجِدْ الأستاذة عَنَاءً في إيقاظِ بِنْتَيْها فكأنّهما لشدّة العناية والاقتراب والارتباط والالتصاق يتَشَمَّمَانِ أنفاسَ أُمِّهِمَا مُنْذُ أنْ تلمَسَ يَدُها بابَ غرفةِ نَوْمِهما فتَتَفَتَّحُ عيونهما الصّغيرة كالزّهرة تُفَتِّحُها أَنْسَامُ الصّباح الباكرِ عنْ بسمة جميلةٍ فتنهضان وتعانقان أُمَّهما عِنَاقًا طويلاً ويتحسّسان صدرها بأيديهما الجميلة والنّاعمة وتقبّلان عينيها ووَجْنَتَيْها ويتأمّلان وَجْهَها وتعبثان بشعرها الأسْوَدِ الطّويل وكأنّهما عَادَتَا مِنْ سَفَرٍ وغيَابٍ فَتَبْتَسِمُ لهما وتَضُمُّهما إلى صدرها البارز ثمّ تقول تُمازِحُ الكبرى : " يكادُ أنفُكِ الصّغير هذا يُطاوِلُ ذقْنِي، فأيُّ لوْنٍ لِحَمّالَةِ الثّديَيْنِ تختارين؟ أَمْ تَتْرُكينَ ذلك للجدّة فهي في ذلك أَمْهَرُ منّا جميعًا. سَنَسْأَلُها الرَّأْيَ. فقريبًا تَفْتَحُ بَابَنَا، سَتَأْتي تَصْطَحِبُكُمَا كالعادة دائمًا أيّامَ الآحادِ والعُطَلِ لِلْفُسْحَةِ والتّنزّهِ، فرياح البارحِة سَكَنَتْ، وأمطارُها أمسَكتْ والأرض قد بَلَعَتْ...لعلّكما إذ تعودان باكرًا فَتَغْتَسِلاَنِ وتغْسِلان ما خَلَعْتُمَا عنكما. فالحاذِقَةُ يا صغيرتيَّ مَنْ كانتْ دَائِمًا على سَفَرٍ...وما عشيّة الآحاد إلاّ استعدادٌ ليومٍ آخر فيه أعمال كثيرةٌ..." فتبتسمُ الصّغرى لِأختها فتدفعها دَفْعًا يَسيرًا قائلة : " ألا تنظرين إلى صدرِك إنّه أيضا لَمْ يَعُدْ صَدْرَ فتيان. " فتضحك الأمّ مِنهما ولهما ثمّ تشير إلى الصّغرى بلطف : " إلى بيت الاستحمام فاغسلي أطرافك. " وتقول لأختِها : " صبرَ الكبار على الصّغار، فإنّهنّ قليلاتُ الصّبر، أُفْرِغْنَ في الحركة والاضطراب."
ومَا زِلْنَ يَخُضْنَ في الكلام والمزاح والابتسام حتّى انْفَتَحَ البابُ دون أنْ يُطْرَقَ فإذا الجدّة مُطِلّةٌ يبدو عليها بعضُ التّعب وفي وجهها حَيْرَةٌ وأسى...
*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق