الأحد، 26 نوفمبر 2017

القرودُ والضّباب (*) ===----- الشاعر حسن منصور

القرودُ والضّباب (*)
=============--------- الشاعر حسن منصور
*****
خَـرجَتْ من أوْكارِها مُسْرِعاتٍ || إذْ أطـلَّ الصّباحُ بعــدَ الغِـــيابِ
أبصَرَتْ في الآفاقِ فجْراً جَميلاً || فــتَـنادَتْ تَخْــتالُ فـوق الرَّوابِي
واطْـمــأنَّتْ واستَبْـشرَتْ بِحــياةٍ || كلُّهـــا هِــمّـةٌ لِـنَــيْـلِ الـرِّغــابِ
لَـمْ يَضِـرْهــا أنّ الشّـتاءَ طـويلٌ || وسَـمـاهُ أُمـورُها في اضطّـراب
بيـنَ برْدٍ تصْـطَــكُّ مـنهُ الثّـَنـايا || وهَـــواءٍ مُـزمْــجِــرٍ وسَــحـاب
وضــبابٍ كأنّــهُ الْحُــلْــمُ يبْــدو || أوْ كطَــيْفٍ يَطـفـو على الأَهْداب
فــــتَـراهُ ومـــــا تــكــادُ تَـــراه || يتـمَــطّـى في جـيــئَـةٍ وذَهـــابِ
********
خَـرجَتْ تلْكُمُ القُــرودُ وسارتْ || تَرْقــبُ الشّمسَ منْ ثَنايا الْحِـجاب
كُلّـما لاحَ في السّحابِ انْفِـراجٌ || وبدَتْ مــنْهُ وَمـضَـةٌ في اقْــتِرابِ:
اسـتَدارتْ رؤوسُهـا للأَعـــالِي || ترْتَـجي طَلْعــةَ الشُّعــاعِ الْخـابِي
وتَراهــا في رقْــصَةٍ وصِـياحٍ || ونَعــــيـقٍ يَــرنّ بيـنَ الشِّــعــاب
فـرْحةٌ في قُـلـوبِهـا جـعَـلَـتْهــا || لا تُبالِي الأَذى وحَـمـلَ الصِّعــاب
ومَضتْ في سرورِها ساعِـياتٍ|| تطـلُـبُ الـرّزقَ في دُروبِ الْغـابِ
حُــلُــمٌ في ضَمــيرِهـــا يتَلالا || كوَمـيـضِ الـبُـروقِ أو كالـشّهـاب
كلّما لاحَــتْ قــمَّــةٌ من بَعــيدٍ || قــصَدَتْـهــــا بِسَــيْـرِهـــا الوَثّــاب
لَمْ تُفكّرْ بِسَيْرِها كـيفَ يَمْضي || أوْ تُشاهـدْ غـيرَ الــذُّرى والقِــباب
********
ومَضى أكــثرُ النّـهـارِ عـليْها || وهْـيَ في نـشْـوةِ الأمانِي العِــذابِ
بَهـرَ الضّوْءُ أعْيُناً شاخِصاتٍ || لِلأَعـــالِي فــي غَـــيْـبةِ الألْــبــاب
وبدَتْ عينُ الشمسِ ترْنو ولكنْ|| فـي اعْـتِكارٍ يلُــفُّــها بالــضَّـبــاب
ومشَى الغيمُ فوقَها فَــمَحــاهـا || مـثْلـما تُـمْــحَى أسْطــرٌ من كِـتاب
طُمِـسَتْ وهيَ لِلقــرودِ مَــنارٌ || طـالَــما قــادَهــا بتــلـكَ الـرِّحــاب
فأَضاعَـتْ أوْكارَها ودُروبـــاً || واضحــاتٍ تَهــدي بــِدونِ ارْتِيـاب
خِـفَّــةٌ في ســيقانِهــا أخـذَتْهـا || لـطــريـقٍ تـبــدو بـغــــيـرِ إِيـــاب
لَـمْ تُشـاهِــدْ وِدْيانَهـا غـائِراتٍ || كجَـحــيــمٍ تَحْـتَ السّــنا الْخَـــلاّب
وأتتْ مـن كلّ الْجِـهاتِ رياحٌ || كـعـــوُاءٍ مـــنَ الذّئابِ الـغِــضــاب
وتَغــشَّـتْها ظُـلـمَــةٌ وضــبابٌ || أســوَدٌ هــائِـجٌ كــمَــوْجِ العُــــبـاب
********
فـأَفـاقَـــتْ تلـك القـرودُ وثابَتْ || بعــدَ غَــيٍّ لِرُشـدِهـــا، لـلـصّـــواب
أدرَكــَتْ بعــدَمــا تَــولّى أَوانٌ || أنّ ذاكَ الضّـــياءَ عَـــيـنُ السَّــراب
وأرادَتْ تَلَـمُّسَ الـدّربِ حــقّـــاً || بعـدَ أن سارتْ في طـريقِ الــتَّـباب
فـتـنـادَتْ مـذْعـورَةً إذْ أفــاقَـتْ || مــن كــَراهـا وحُــلْـمِــهــا الكـذّاب
تطْلبُ الـنّورَ والـنّـجــاةَ ولكــنْ || أينَ مــنْـهــا طــريقُـهــا لـلـطِّـلاب!
ضربَ الليلُ حولَها سـورَ رَيْبٍ || لَــم تَجــــدْ مِـنْ خِـلالِــه أيَّ بــاب
واحْتَواها الظّلامُ جسْمـاً وَروحاً || مُطفِـئاً ما في روحِها مـن غِــلاب
ساءَلــتْ عن دُروبِهـا كلَّ شيءٍ || فَـجــنَـتْ خــيْـبةً نَظــيرَ الْجَـــواب
كُلّــمــا سارتْ لــلأمــامِ قـلــيـلاً || شَعــرَتْ في مَســيرِهـا باغْــتِراب
ثم عــادتْ كـمَـــوْجــةٍ تَـتـلــوّى || لفــظَـتْـها دوّامَــةٌ في اصْـطِـخاب
واسْــتـقــرَّتْ مَكانَهــا حائِراتٍ || تَتـَلــظّى مــنْ وَحــشَـةٍ واكْـتِــئاب
وأقامَـتْ مكانَهـا وهيَ تَهـــذي: || (ليْـتَـنا كُــنّا كَــوْمـةً مــن تُــراب!)
********
وستَبْقى مُقــيمـةً في جَــحــيـمٍ || مـوصَـدِ الـبـابِ حـالـكِ الْجِـلْبــاب
وستَـبْـقــى إلـى وِلادةِ جــــيـلٍ || مُسْــتـعِـــدٍّ لِـلأَخْــــذِ بــالأسْــبـاب
وإلى أنْ يَجــيءَ فَــتْـحٌ جَـــديدٌ || يُنـقِــذُ الْجَــمْعَ من شَـبا الأَوْصاب
ويُزيلُ الضّبابَ عنْ كُلِّ عــينٍ || فـتَرى في الصَّباحِ درْبَ الْمَــآب.
****************************************************************
(*) هذه القصيدة (عام 1986م) من وحي مدينة (أبها) في جبال عسير في جنوب السعودية، وهي مشهورة بضبابها وبوجود القردة فيها ويسمونها (الرِّبْحان ومفردها رَباح).
****************************************************************
الشاعر حسن منصور
من المجموعة الخامسة، ديوان (لمن أغني) ط2 - دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع- عمّان 2014م - ص 12
__________

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق