الثلاثاء، 28 نوفمبر 2017

الجزء الثّالث من روايتي المخطوطة،،احمد بو قراعة

‏ د
هذا هو الجزء الثّالث من روايتي المخطوطة "ليتني أشرب..بخيالك" ولقد لاقى نشر الجزء الأوّل و الثّاني بعض التفاعل الإيجابي من الأصدقاء حتّى أنّه تحصّل على التتويج اليومي كأحسن نصّ في مجموعة محبّي الأدب و الشعر و أرجو أن ينال هذا الجزء إعجابكم و دمتم محبّين للكلمة الجميلة
ومَا كانَ عَنِّي بعيدًا يُؤْتَى إليَّ أَخْبَارًا في حلقات ذِكْرِ اللّهْوِ أو التندُّرِ أو الغيبة والنّميمة أو في لَبُوس المُتأدّب العَطُوفِ أو في رِداءِ الشّامِتِ الشّاتِم أو مِنْ لِسانٍ تقوده عيْنٌ مُرَاقِبَةٌ متابعة...مَا كَانَ كذلك أَضْحَى يدنو منّي ويصيرُ إليَّ ويقترِبُ شيئًا فشيئًا. ولقد كنتُ أزعم أنّي أنا الحَريصُ مُنذ أنْ عرفتُ النّاسَ أنْ أُفَكِّرَ بالنّاسِ وليس فيهم، وكنتُ أَدّعِي أنّ مَا يشغلُ النّاسَ للنّاسِ وحِيَلُهم فيما يشغلهم كثيرة وكبيرة وكنتُ أرَى أنَّ حَمْلَ هموم النّاسِ وأحزانهم والتعاطف معهم والتفكير في أسباب أَتْراحِهم أَيْسَرَ كثيرًا منْ إِحْلالِ ذلك في الذّهن ليَصيرَ أداة تفكير ووسيلة تعبير، وكنتُ أعتقد أنّنا نتحدّثُ مَجَازًا عن مجتمع بل هو مجتمعات وأنّ النّاسَ أُنَاسٌ وأنّ الحياة حَيَوَاتُ لأخبارٍ وحكاياتٍ آخذة برِقابِ رِواياتٍ فيها المختلف والمُؤْتَلِفُ فيها كثير، ولعلّ في ذلك - كما كنتُ أزعم – للنّاس عَزَاءً وتَهْوِينًا وتخفيفا.فمآسِي النّاس لِمَنْ شَاكَلَهُمْ حَمْلُ عبء واحد على أكتاف...كنتُ أزعم كلّ ذلك وكأنّي أبحثُ عن مخرج لِي مِنْ كلّ بسيط ومألوف ومتعارف عليه يتحدّثُ النّاسُ عنه أو يروْن الرّأي فيه في اجتماعاتهم واختلافاتهم إلى بعضهم...
كان يوم الإثنين بالنسبة إِلَى مُعَلِّمي اللّغة العربية وآدابها أقربَ إلى يوم رَاحَةٍ أسبوعية إضافية فقد لاَ يُسْتَدْعَى هؤلاء المعلّمون إلى درس بيداغوجي أو نموذجي - كما يَحْلُو للمتفقّدِين تسمِيَتُهُ – إلاّ مرّة واحدةً أو مرّتين في العام الدراسي كلّه بِحضور مُتَفَقِّدٍ كثيرًا ما كانَ يستأثِرُ بالخطاب مُرْشِدًا ومُوَجِّهًا ومقترحًا وفَارِضًا وكأنّه أُمُّ العلومِ والمعارف ينطقُ خبرةً وعِلْمًا وتجربةً وتحكيك نظريات ونَظَرٍ وبَصَرٍ في التربية والسلوك والتّعليم والتّعلّم والمناهج والطّرائِق والأساليب، يُعادُ ذلك كلّ عامٍ مرّةً أو مرّتين بنفس الصّيَغِ والألفاظ ثَابِتًا لا يتغيّرُ منذ عقودٍ حتّى حَفِظَهُ المتعلّمون والمُعلِّمون فصار ذلك اللّقاء البيداغوجي لقاء رؤوس عَرَفت وتعارفت وتحوّلَ إلى مجتمعين قد تفرّقوا في معاهد كثيرة مُتباعدة بَسَطَ ذلك اليوم لهم أيادي المُصافحة والمعانقة والتّرحيب واللّوم والتّأنيب…وربّما كان السيّدُ المتفقّد عَارِفًا بهؤلاء المعلّمين طِبَاعًا ورُؤوسًا فاستئثاره بالخطاب قد يكون دَفْعًا لِمَا يقعون فيه من هَذَرٍ في المحاورة يستهلك الزّمن ويُهْلِكُ الدّرس.
كان هؤلاء المعلّمون، إلى جِوَارِ مُعلِّمِي مادّة الفلسفة يعتقدون أنّهم خيرة خيرة المثقّفين. وكانوا يحمِلون رَأْيًا راسِخًا غير مدحُوضٍ أو مُكذّب أنّهم عَقْلُ هذه الأمّة لِمَا في رُؤوسِهم منَ المعرفة ومنَ الحكمة الصّافية والطّافية، وأنّهم ضميرها النّقيُّ لِمَا اتّسَعَتْ له حَافِظَتُهُم مِنْ شعرٍ وقِصصٍ وحكايات وأساطير وخرافات وأمثال، وأنّهم المَبَادِئُ تسير على أقدام لِمَا استَخْلَصُوهُ من فَهْمِ التجارب والمعارف والعلوم، فهم خيْرُ مَنْ اتّسَعت لهم الأرحام فَهَبَطُوا صُدورًا لا تَضِيقُ ورُؤوسًا كبيرةً تَسَعُ كُلَّ مَا في هذه الحياة مِنْ شَتّى المعارف والمناهج والمصادر والمَرَاجِع، وهُمْ خَيْرُ الضمائر تنتقي للنّاس أفضلَ ما قال النّاسُ لذلك هُمْ مُتَحَدّثُون في كلّ مسألة لا يَعِيبُهم الجِدَالُ و لا تُتْعِبُهم حُجّةٌ ويُغريهم الاستدلال بالأقوال يُطيلون في ذلك ويُبَالِغُون ويُغالُونَ غير خائفين الزّلَلَ والعِتَابَ، يغرزون أقلامهم في كُلِّ فَنٍّ و لا يجدون ضيقًا أو حَرَجًا إِنْ أفاضوا في عِلْمٍ بغير مصطلحاته أو أدواته، تستهويهم الأخلاق وتستميلهم السّياسة وهم بذلك شاعِرون بالرّفعة وبالزّهو وربّما بالانفراد والتفرّد فهم كبعض الطّيور تُحْسِنُ أصْوَاتًا كثيرةً.
وكانت الأستاذة واحدةً من هذه الطّبقة الرّقيقة والمتأدّبة في المجتمع. كانت امرأةً رشيقةَ الجسم، حُلوة الوَجْه، جميلة المَبْسَمِ، في عيْنَيْها اجتمع الحَيَاءُ والإغراءُ والنّداءُ. بَصَرٌ لا يهفتُ يُقَلِّبُ في خفاءٍ الأشياءَ والوجوهَ والأيادي تقليبًا كأنّهُ يبحثُ عن مفقود أو يرغب في مَرْصُودٍ أو يُنَبّهُ مَرْدُودًا أو كأنّه اليَأْسُ مِنْ متروكٍ أو موعودٍ.
وكانت كلّما حَرَّكَتْ بَصَرَهَا هَمَّتْ يَداها بالحركة. يَدَانِ صَغيرتان نَاعِمَتَان كأنّهما تَبِيتَانِ في مَغاسِلِ اللّين أو حمّامات طِينٍ مُخَلَّلٍ بعطور. تودُّ يَدَاهَا أنْ تُحاذيَا كلَّ ما يَحِنُّ إليه بصرها فيصدّها صَادٌّ مِنْ نفسها يضطَرِبُ له خِصْرُها الملآنُ والوَاقِفُ على مَنْحُوتٍ قُدَّ مِنْ فَنٍّ وتأنٍّ والرّافِعُ صَدْرًا مُتَأَهِّبًا كَثَغْرِ صبيّةٍ صغيرةٍ مُتلهِّفَةٍ لِحَلْوَى مُقبلة بِيَدَيْها تُنَتِّشُ الفَضَاءَ والخدودَ والعيونَ ضاحِكَةً بَاكِيَةً.
كانت واحدةً من هاتيك المدرّسات النّساء ولكنّها لم تكن مِثل أغلبهنَّ تخوضُ فيما يَخُضْنَ فيه من حِوارٍ في السّياسة أو الاجتماع أو في إضرابِ المُضْرِبين أو عَمَلِ العامِلين. لمْ تكنْ ذَاتَ لِسَانٍ طويل يهيجُ في المَحافِلِ والاجتماعات كما تهيجُ ألسنةُ بعضهنّ صُراخًا وحِدّةً وارتفاعًا وتداخُلاً يَشِي بِمَا لبعضهنَّ مِنْ قوّةٍ في هذه العَضَلَةِ السّخيفة. لمْ تكن فيهنَّ و لا منهنَّ. كانت لِسانًا أعْرَجَ أو أخْرَسَ يختارُ الحديثَ ويَنْتَقِي سَامِعَهُ، إذا حادَثَتْ إلى كلّ الجهات كانت تلتفتُ، تأكل المكان وترصده، وتحدّق كالباحثة أو كالمسكونة بالخوفِ والذّعرِ، أو كالفاعِلِ عَبَثًا يخافُ عَيْنًا تراقبه وتُحاسبه.
وكنتُ أنا أيْضًا، أحيانًا واحِدًا مِنَ هؤلاء، فيهم ومِنهم. ولكن كانَ كلّ الأساتذة المتزوّجين، في المعهد و في خارجه مطمئنّينَ إليَّ أَشَدَّ الاطمئنان، وحتّى النّساء المتزوّجات والعَازِبات أو المتروكات قد كُنَّ جميعًا يَرْتَحْنَ إلى مُحادثتي غير خائفاتٍ وذلك لِنِعَمٍ كثيرةٍ خُصِصْتُ بها وأفضالٍ مُنَّ بِهَا علَيَّ دون غيري. فقد كنتُ دَميم الخِلْقَةِ، سيّئَ المنظر، مُسْتَقْبَحَ السِّماتِ غير محبوب العلامات، مٌقْبِلاً مُدْبِرًا في البشاعة، قصير القامة، عريضَ الصّدر، مُتباعدَ الكتفين، رقيق الخصر والفخذين والسّاقين فكأنّي مُثَلَّثٌ يَقِفُ على إِحْدى زَواياه. عيْنٌ صغيرة وأخرى أصَابَها الحَوَلُ لا يدري جَليسِي إلى أيّة جهة أنظرُ. وقد زَادتْني الأمراض والأسقام والعِلَلُ تشويها. جَبينٌ أَفْطَحُ مُفَلَّجٌ وأنفٌ مكسورٌ أفطس، وأسنان نخَرَها السّوسُ فتناثرت ويَدٌ يُسْرَى مضروبةٌ عوجاء إلاّ أنّني كنتُ أُتْقِنُ بعض الكلام وأعرف الأدب وأُحْسِنُ الجِوار وأبسط يَدي اليُمْنى بِالمعروف. ولهذا كان الرّجُلُ إذا رآني إل جوار امرأة ارتاحَ واطمأنَّ، ومن الرّجال إذا رأى أنثى جميلة تُقبِل عَلَيَّ ضحِكَ ربّما سخريةً أو تَعَجُّبًا، وأمّا المرأة إذا حَاذَتْنِي أو حادثتني فقد بَرَّأت نفسها مِنْ كلّ عَيْبٍ وجَنَّبَتْها كلّ سوء وأَذْهَبَتْ عنها شكوك النّاسِ فيها. فما أنا بِالمُثير أو بِالمُغْرِي أو بِالقادر...أنا سليم بن مُسلم بن مُسالِم...وهي سَليمة بنت عافية.
ورغم تناثر أسنانِي واعوجاج ما تبقّىَ مِنها وتآكل اللّثة حتى كادت تظهر ما انغرس فيها من جذور لَمْ أَكُنْ أَتَحَاشى الكلام أو أتجنّب مُحادَثةَ النّاس. ولكنْ كنتُ فقط أجتهد لِأَنطقَ الحروف نُطْقًا سليمًا، خاصّة تلك الحروف الصّفيرية التي كانت كثيرًا مَا يُتْعِبُنِي عُسْرُ نُطْقِها المتداخل. وكان ما شجّعني على ذلك تعوّدُ مَنْ يعرفُنِي بذلك النّطق والاهتداء سَرِيعًا إلى الألفاظ المنطوقة والمعاني المقصودة.
ولم يكن هذا العيْبُ يُقْلِقُنِي بل ربّما كانت له أفْضَالٌ عَلَيَّ إذ جعلني في كثيرٍ من الأحيان أضُمُّ شَفَتَيَّ إلى بعضهما وأبْلعُ لِسانِي، فصرْتُ أُفكّرُ بِصمْتٍ وبدون ألفاظٍ فأرى في مُحَادِثِي حَقَّ ما يُخْفيهِ إذْ سُرْعَانَ مَا أُجَرِّدُ حديثَه من الألفاظ فَيَسْتَبينُ لِي مَا حَاوَلَ أَنْ يُزْعِجُ به المعنى مِنْ انْتِقَاءِ اللّفظ واختيار المفردة يزعِجُ بهما المعنى يُخاتِلُ ويُخادِعُ. وأفضل مِنْ كلّ ذلك مِنَّةٌ أخرى إذ بَعْدَ أنْ جرى بيني وبين الأستاذة ريحُ الاطمِئنان، وعرَفَتْ فيَّ ضَمَّ الشفتين على اللّسان وترك هذا اللّسان البَوْحَ بالأخبار بَادَرتني بالقولِ يومَ كانت تجاورنِي الفَصْلَ، كان جميعُ التلاميذ في امتحان :
- ألَكَ غيرُ ‹‹ ماجدولين ›› للمنفلوطي ؟ فلقد سَرَّتْ البنتَ الكبرى قراءَتُها، وأرجو منك آخَرَ للصغرى، وأمّا تلخيص ‹‹ القانون في الطبّ ›› لابن سينا فلو أَضَفْتَ للأسبوع أُسبوعًا حتّى أجتَهِدَ أكثرَ في تتبّعِ مَا أُريدُ مِنْ مُصطلحاته.
كنتُ أستردّ مِنْ أحد الأساتذة كُتُبًا كان يَهْتَمُّ بِمُدارَسَتِها وكان منها ‹‹ طِبُّ الفقراء ›› و ‹‹ الطبّ الفرعوني ›› وبعض قِصَصٍ أخرى. فابتسمت وقالت :
- أَلِي أنْ أطلُبَ مِنْكَ وُدَّ هذا، أمّا ابن سينا فما أعرف عنه سِوَى أنّه قد تُرجِمَ خَطَأً إلى Avicenne لذلك رغبتُ فيه أسبوعًا آخر.
فقلتُ بكلّ مَرَحٍ :
- وإنْ لم تَجِدِي غايةً تطلبينَهَا في الطبّ القديم فإنّي مُعْطِيكِ حَديثه."
وأضفْتُ :
- لَكِ مَا طَلَبْتِ، ففي ‹‹ في سبيل التّاج ›› تيجانٌ مُرَصَّعَةٌ باللّغة والعواطف، وفي تلك القصّة قصّةٌ أخرى.
ويبدو أنّ الأستاذةَ لَمْ تتبَيَّنْ بَعْدُ معنى الكلام، فاكْتَفَتْ بالابتسام الخجول.
كُنَّا نُراقِبُ التلاميذ في امتحانهم من الشبابيك، ولمّا رَأوْوا ابتعاد عين الرّقيب انتقل الغَمْزُ بالعين إلى إشارة وتحوّلت الإشارات بينهم إلى همس وتكاثرَ الهَمْسُ فأضحى تشويشًا فقالت وكأنّها ترغب في الابتعاد عنّي قليلاً :
- إنّ هؤلاء التّلاميذ أشدّ انضباطًا وعزْمًا وحَزْمًا وحضورًا وعملاً وسرعة من حضور الشياطين والمَرَدَةِ في قُلوب الفُجّارِ والعُصاةِ.
ضحكتُ ضحكة المُعجب بهذا التمثيل و لا غرابة في ذلك فهي أستاذة آداب. و تركتْنِي لتعود إلى قِسْمِها وأعود مِثلها إلى تلاميذي تارِكًا الشبابيك المباركة عَلَيَّ فهدأ البعض وسمعتها تصيحُ مؤنِّبَةً ومُعَاتِبَةً.
كنتُ قد استرجعتُ مِنْها قصة ‹‹ ماجدولين ›› وفي طَيّات الكتاب عَثَرْتُ على ورقة هي أشبه بالمفكرة برؤُوسِ الأقلام، وكانت حروفها كبيرةً ومَضْبُوطَة وخطّها كان مُهَذَّبًا وسَليمًا ما يدلّ على عِنَايَةٍ وغايةٍ مقصودةٍ. وفي تلك الورقةِ جُمَلٌ مختارةٌ. ( اللّيلة ليلة عاصفة - المطر والبرد - امرأة تقاسمت مع زوجها السّكن - لها بنتان صغيرتان - استقرّ بهنّ المقام في الجزء العلويّ - الزوج مُنْفَرِدًا بنفسه في الطابق السّفلي - الإحساس بالوحدة وبالوحشة - علامات استفهام كثيرة متتابعة... ). قرأتُ تلك الجُملَ المكتوبة بخطّ واضح فَأَدركتُ بسرعة غايتَها. لقد رَبَطَتْ ذلك بِصِغَرِ عَيْنِي وضيقِها وحَوَلِ الأخرى وعَمشها. وربّما اهتدت الأستاذة إلى أنّ ضمّ شَفَتَيَّ الطّويل تجنّبًا لإبراز عورة تناثر أسناني أمام كلّ النّاس، وانفلات لِساني من بينها قد يكون مُسَاعِدًا فاضِلاً على السّكون إلى النّفس والسَّكَنِ فيها.
قرأتُ تلك الجملَ مرّات كثيرة وأعدتُ النّظر فيها، فاستلمها خيالي ورَتّبها وبتُّ لَيْلَتينِ أتصوّر وأتوسّع وأزيدُ ، ثمّ حفظت ذلك في قصّة ‹‹ في سبيل التّاج ›› أحمله دائمًا في محفظتي أرقب خَلوة قصيرة أو لقاءً.
لم يَطًلْ مقامها في القسم إذْ سريعا ما أطَلّت من نافذة قسمي فَأَسرعتُ نحوها، وقلتُ :
- هذه القصّة مفيدة أيضا ولعلَّ بنتَ عشر وثلاثٍ قَدْ تَجِدُ فيها عبارةً حَسَنَةً ولفظةً جميلةً وكلمةً رقيقةً وعاطفةً غنيّةً وخيالاً مُريحًا...
مَدّت يَدًا صغيرة وجميلة ترقب الكتاب بِعين حَذِرَةٍ فكادَ يَنْفَتِحُ عن أوراق غريبةٍ عنه في طيّاتِه. فنظرت إليَّ فابتسمت وكأنّها أدركتْ ما كنتُ قد قُلْتُه سابِقًا : ‹‹ وفي تلك القصةّ قصّة أخرى ››.
اقتربَت مِنّي كثيرًا حتّى كادت تلامسُني، ولعلّها قد فعلت ولكن أَنَّى لِجسم مَسْكونٍ بتشويش أن يُحِسَّ بذلك، واقتربت أكثر، وربّما لولا استحياء أو خوف أو إنكار لِبشاعةِ وجهي ودَمَامَته لقبَّلَتْنِي، ثمّ شَكَرَتْنِي وانصرفت تعود إلى تلاميذها وسمعتُ صوتها مِن جديدٍ تُعاتِبُ، وعُدْتُ إلى فَصْلِي أشيرُ إلى تلميذ بعَيْني مؤنّبًا وإلى غيره بيدي اليُمْنى مُتوعّدًا ومن التلاميذ من يبتسم ويضحك.
لم نألف قطّ في معهدنا أساتذةً وتلاميذ ومُديرًا وقيّمين وعَمَلَةً الالتزام والانضباط ذلك أنّي مَا رَأَيْتُ يومًا عَلَمًا قد ارتفعَ، وما سمعت أبدًا تلاميذ يحوقون به مُستمعين أو مُنْشِدين النّشيد الوطني، وما ألفت أقدامنا وُلُوجَ الأقسام إلاّ بعد القَضْمِ من السّاعة رُبُعَها.
كان كلّ ذلك مألوفًا بالنسبة إلينا، وحتّى المُسْتَقْدَمُ حديثًا إلى معهدنا سريعًا مَا كان يتأبّطُ شرْعنا ونهجنا، وإنْ أبْدَى أوّل الأمر استغرابًا أو رفْضًا أو تردُّدًا فإنّه سرعان مَا يَصيرُ في ذلك إمامًا وزعيمًا يُعْجِبُهُ القضم ويستلِذُّ التأخّر. وحتّى المدير فإنّه لمْ يَجِدْ وسيلةً يُطَهِّرُ بها المعهد من هذا السّلوك. لقد ظلّ السيّد المُديرُ واقِفًا مبهوتًا عَاجِزًا أمام وقوف هذه العادات صارمةً وشامِخَةً صمّاءَ لا تَستمع إلى صوت و لا تستجيبُ إلى أيّ نداءٍ. لقد كان الرّجل واقفًا محتارًا بين صرامة اتّجاهه اليَساريّ أو مَا يحاول اليساريون عمومًا أنْ يَلبَسوه مِنْ لِباسِ الالتزام والاتّزان والصّرامة وبين مَا فُرِضَ في هذا المجتمع الصّغير من تحوّل في سلوك التلاميذ والعاملين به جميعًا، فكانَ كثيرًا ما يدفع الأساتذة أو ينهر التلاميذ باستحيَاءٍ حَيَاءَ المُحْتارِ أفي تطويع الرأي والمعتقد أم في تركيع الواقع والحاصل، غير أنّه كانَ يُحاذي الرِّئَاسَة في هذا المعهد محاذاةً لطيفةً ومَاكِرةً، فعلى ما كان يُحاوِله من إظهار مَا يُخْفِيه مِنْ ضَجَرٍ وتذمّرٍ فإنّه بَاسِطٌ كفّه للرّاحة، رَاضٍ بالكائن، مُطمئن إلى هدوء العمل، مُسْتبشِرٌ بحسن نتائج التلاميذ وتفوّقهم الدّائم.
كان المعهد على ما فيه أفضلَ من معاهد كثيرة عملا ونتائج وسُلُوكًا...
كانت عيني تُحَاذِرُ الطّريق أقْطَعُها لأدخل المعهد وأدخل في الأستاذة وفي التلاميذ. ولم يكن بَعد الثامنة صباحًا ذلك اليومَ، رصدت أذُنِي، وهي النّبيهة والصّحيحة والمعافية من بين أعضائي جميعًا، حركةً فالتفتُّ حَذِرًا فإذا بالأستاذة تترجّل كالمتسرّعة مِنَ السيّارة، أو كالرّاكب غير المُسْتَريح يستعجِلُ النزول، وتفحّصتُ بِجُهْدٍ وعناء وَجْهَ السّائق فرأت فيَّ ذلك فقال :
- إنّه زوجي، يخافُ على مركبته مِنِّي فهو موصِلي، وذاهب إلى حيثُ لا أدري ولا أعرف .
فقلت :
- نَعَم، أرَاهُ وأعرفه...
و بتعجّبٍ أضفتُ :
- زوجُك ! ولكن...
ولعلّها قد أدركت سريعا موضوع الاستدراك فقالت : لِي مِنه بنتان، وأخوهما الأكبر عُولِجَ بالموت...وهذي الطّريق سَالكة وباب المعهد مفتوحٌ...وقطعنا الطّريق تُنَبّهُني من بعض حُفَر او حجارة...
أعرفُ الرَّجُلَ صورة وشكلاً وأجهله مَنْبَتًا ولاَ أدري أيّ زرع تُخرجُ أرضه وقد أسمع بعض خِصاله. ولقد التقطت تلك الأذن الرّاصدةُ أنّه مُتِمٌّ هذا العام عَمَله. أي إنّ أمّي قد ولدتني بعده بِخمسٍ لكنّه يبدو أنّه أكبر منّي بِعَشر. كان أطوَل منّي قامةً وأسلم جسدًا. لم تكن به عاهةٌ ظاهرة، لا يَتَذًمَّرُ مثلي إنْ مشى، ولا يشتكي إنْ توقّفَ، تحمله رِجْلاه بكلّ يُسْرٍ، لا يخلط مِثْلِي إنّ تحدّثَ. كان قليل الكلام والمُحادَثَة معنا، مَنْ يدري لعلّ والدتي قد أَصَابَها ( وَحْمُ النّساء عليه ) فوضعتني مَضْمومَ الشّفتيْن. كان أسمر اللّون، كأنّ جِلْدَ وجهه قد صُبِغَ بِزُرْقَةِ بعض الهنود. قليل الابتسام والضّحك، غضوب دَائمًا ولم تَرِثْ عَينه من عيني عَمَشًا أو غشاءً.
ورغم ما صُوِّرَ به وعليه جسمي فإنّي كنتُ سعيدًا في جسدي، أشعر بالرّاحة فيه وأستلذّها. ولمّا كان القول ‹‹ سيماهم في وجوههم ›› صحيحا فإنّي أكون أفضل مِنْهُ استقامةً ورَاحَةً وهُدُوءً. لقد وسعني جسمي واتّسع لِي ورضيتُ به، ورغم دَمَامَة وجهي فإنّي لا أَصْنَعُ ضحكة أو ابتسامة، بل هُمَا، وإنْ ظهرتا مُشَوَّشَتَيْنِ مطبوعتان فيه ومختومتان بخاتم البشاشة والرّضى.
إذن اعرف الأستاذ، مُدَرّس لُغة أجنبية، قليل من التلاميذ شاكرون عِلْمه وعرفانه كلّهم مُبْتَئِسون من سُلطته وسُلطانه وحُرْقة لسانه وقِلّة غفرانه وحِدَّة غَضَبِه وسُرعة هَيَجانه.
كانت وَمْضَةً سريعةً جَادَ بها الخاطِرُ عن هذا الزوج ما لبثت أن أزاحها مِنْه صَخَبُ الأساتذة في قاعتهم. وكانت أصوات النّساء عاليةً وبارزة ومرتفعة منها المُرْهف الخفيف المستلذّ ومنها الحادّ النّابيّ المُستكره.
تركتني الأستاذة لَحْظَةً لتعود إليَّ غير عابئة بِمَا حَوْلَهَا من شخوصٍ وطُقوس وأَوْمَأَت إليَّ بِرأسِها مشيرة إلى باب الخروج ودَنَتْ منّي واقتربت لتقول :
- ألَنَا في الجوار حَظٌّ هذا اليوم ؟
فقلتُ :
- يبدو أنّ لي حظوظًا بدأت تستفيق.
فابتسمت رقيقًا. فأدركتها بالحديث :
وأيُّ جوار له حظّ تعنينَ ؟ وأيّ جوار تُريدينَ ؟ فإنْ كانت مُجاورتي ففي جسمي مَا تعرفين، وإن كان جِوارَ الحيطان، فما حائط بِمَانِعٍ عن لقاء.
كُنّا أوّل مَنْ ترك القاعة نحو غرف الدّراسة، وكانت تلك الغُرف بعيدةَ المسافة ربّما قد تَسْتَغْرِقُ عشر دقائق على ظهر بغل أو حمار لو كانا. وكانت تترفّق بِمِشْيَتِي وتتلطّف بخطوتي. وكان الاستغراب بادِيًا ظاهِرًا في وجوه بعض التلاميذ. لقد كنتُ أَشْبَهَ بِأحسن خَلْقِ الله تقوى وفضيلةً يدخل المسجد أوّل النّاس ويتركه آخرهم.
لمْ أَشَأْ أنْ أذكّرها بقصّة ‹‹ في سبيل التّاج ›› هل فتَّحَتْ عنها ضيق محفظتها فألقيْتُ الكلام نواحيَ متباعدة ورميتُ الحديثَ في جهاتٍ مختلفة أرجو لبنتيها خيْرًا ولَهَا معروفًا ولزوجها صِحّةً وسَلامَةً.
ورغم مشيتي المتثاقلة فقد كنتُ أَخَفَّ مِنْها حَرَكَةً، ورغم أنّ ساقي تكاد تَلْتَفُّ بِساقي فإنّ الأستاذة كانت تستبطئ الخُطا و تُرخِي العصا وتشدّ الزمام واللّجام كأنّها مِنّي قد أصابها العَرَجُ والأذى فصرتُ لها في وَهَنِ المشي والسّير مقتدى. كانت تسير إلى جواري لا تتقدّم خطوتُها قدمِي، تنظُر إلي رأسي المدوّر والمكوّر مرّةً، وتُلقي بصرها تارة على يدي اليُمْنى فرأيْتُ منها ذلك، فقلتُ :
- إنّي أحمد الله على ذلك حمْدًا لا يكاد يحمده به عَبْدٌ، فتصوّري مَنْظَرًا هذا المثلّث بِلاَ رأْس وبِلاَ يَد.
اقتلَعتْ من شَفَتيْها ابتسامة وقالت :
- نعم، نحمدُ الله كثيرا...ولكن...
ثمّ كادت تسكت وتسكن فقاطعتُها :
- أحمد الله على...أنْ فرَّجَ شفتيك بابتسام. فاستعادتْ ابتسامةً خفيفة وقالتْ :
- أشكُرُكَ الجزيلَ على ما كتبتَ، لعّلَك أَضْنَيْتَ رأسك وأتعبتَ يَدَكَ. فقلتُ :
- ما خَسَرَتْهُ اليُسْرى المكسورة قد اسْتَغْنَتْ به السليمة. وأرجو أنّ البنت قد وَجَدَتْ فيه ما يُثِيرُها لُغَةً وخيالاً. فقالت بصوت خافت لولا تلك النباهة في أذُني ما سمعته :
- البنتُ ؟ نَعم...نَعم...البنتُ...البنتُ...لَعَلِّي أنا البنتُ التي ما زالت تقرأُ وتحفظ وتتلمّس...
وتقدّمت بنا الخطا إلى حيثُ الواجبُ والمُنْتَهَى، فتوقّفت وشمّرت عَنْ ساعد أحمر وقالت :
- في أيّة سورة هذه الآية قد رُتِّبَتْ : ‹‹ فلمّا جاءت قيل أهكذا عَرشك، قالت كأنّه هو... ››
فقلتُ :
- سأحفظ القرآن الكريم منْ أجلها وافترقنا ليجتمع كلٌّ مِنَّا بتلاميذه.
جمّعتُ هذه المرأةَ فاجتمعت لي في موجز: امرأة...بنتٌ...استدراكٌ...إشاراتٌ...هذه الإشارات والحركات القليلة التي تبدو مُقيّدةً كأنّما تُحاذِرُ عينًا تراقِبها وتصوّرها وتُحاسِبُها...ولكن ما لهذه اليد تكاد تحلّ دائمًا أينما حَلَّ البصرُ كأنّها تتلمَّسُ مَفْقُودًا أو كأنّما حُبِسَتْ عن مَرْغُوبٍ فيه أو حُرِمَتْ طَعْمَ الأشياء.
ولقد حَيّرَني استعمالُها الاستدراك فأيّة أشياء تكتم وأيّة أحاديث قد غَلَّقت الأبوابَ عليها وأقفَلَت صدرها عليها ؟ أَفيها مَا جَعَلَ هَاتيْن الشّفتين تتشقّقان جَفَافًا كسطح الأرض البَوَار لولا طلاء تَتَدَهَّنُ به النّساء زينَةً ومُخادَعَةً، وهذه العَين كأنّما النّدم يصرّها والألم يعصرها والأسى يقبضها فكادت تتكمّش وكادت رموشها وجفونها تتكسّرُ لولا أنّ كُحْلاً قَدْ زَانَها ومساحيق وأشياء أخرى تستعملها النّساء قد وَسَّعتها فَبَدَتْ لها ظلاَل وما قولي في قولها : ‹‹ أنا البنتُ...ما زلتُ أقرأُ... ››. أتقرأُ كُتُبَ الطبّ القديم ؟ وما حاجتها في ذلك ؟
لقد صَدَقَتْ وقالت صوابًا. هي بنتٌ. ولقد رأيتُ الفَرَحَ ذَاتَ صباح فاعلا في وَجْهِهَا يستفزّه الطّربُ لحظةً حين قلتُ لها وقد اعترضَتْ سبيلنَا فتاة تلميذة فاخرةُ المَبْنَى : أيكّما البنتُ الأصغرُ ؟
لمْ تكن الأستاذة طويلة القامة أو مُمْتَلِئة الجسم. لا يظهر من جسدها الرّشيق سوى هذا الوجه الجميل الذي لَوْ ضُوحِكَ لَأَشْرَقَ وأفَاضَ وأَهْدَى، وكفٍّ صغيرة رقيقةٍ ووجهٍ جميلٍ يدلّ على مَا هو أجمل وأطرى وأَنْدَى مِنْهُ، ويدٍ توحي بأنّها لم تلمس قطّ خشونة. رَأَفَ بها اللّين فأنْعَمَ عيها ونَعّمَها. تكاد تكون بنتًا مِنْ بنات هذا المعهد لولا أنّ كلمةٍ تُفرزُها من بَيْنِهِنَّ ( مَدامْ... مَدامْ )، لذاك كانت تبتسم ابتسامة القبول والرّضى حين تعترضُ سبيلي فأمازِحُها : ‹‹ أَهْلاً بالمدام الصّغيرة ››.
لمْ أكن ذَا خُلْطَةٍ أو معاشرة، فلم يكن جسدي يَسْمَحُ بما تسمح به الأجساد السّليمةُ لأصحابها من حركة وانتقال.
(يتبع)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق