الجمعة، 21 يونيو 2019

زيارة ذات شجون....فادية حسون.

زيارة ذات شجون....
.
.
لم أشأ مغادرة تلك الجلسة الإستثنائية التي جمعتني بالعم أبي مصطفی والخالة ليلی ....
ذهبت لزيارتهما بعدما علمت أنهما يسكنان في نفس المدينة التي أعيش فيها ..حيث حصلت علی رقم هاتفهما ثم ذهبت إليهما بلهفة بعد إرشادي إلی العنوان ...
تربطني بهذه العائلة علاقة نسبٍ بعيدة..إلا أن السوريين هنا لا يبحثون عن القرابات فحسب لبناء جسور التواصل.. بل يبحثون عن نفَسٍ سوري يشاطرهم آلام الاغتراب البغيض ..كان لقاؤهم بي أشبه بلقاء الغريق مع القشة ....وعناق الخالة ليلى كان يصحبه اشتمامٌ عميقٌ متسربلٌ بشوقٍ عتيقٍ متجذّرٍ بين ضلوعها التي تحتضن قلبها الذي أرهقته السنون العجاف ..
العم أبو مصطفی رجلٌ بلغ الثمانين من العمر ..من مدرّسي اللغة العربية القدامی ..أنهكته تلك السنون العشر التي أمضاها في ظلمات المعتقل ..وعندما خرج من سجنه الصغير فوجئ بسجن أكبر بكثير حيث لا عمل ولا معيل سوی الله ..شعر بالعجز أمام سبعة أفواه فاغرة وأمهم التي كانت ترسم لهم خلال السنوات العشر .. صورة الأب الذي سيأتي وينهي مأساتهم ...ويضع الخطوط العريضة لمستقبلهم....
راقبته وهو يرتشف قهوته بيدين ترتعشان ناطقتين بحقيقة اجتياح غير مسبوق لتلك الزائرة غير المستحبة والمسلّم بقدومها ( الشيخوخة ) .. أخذ يحدثني وأنا أُنصت بشغفٍ لذاك المسنّ المثقّفٍ وأحاول استنباط الحكمة والعبرة من وجهه العابق بالايمان ...
شعره الأبيض الذي غزا رأسه باستسلام ..نظارته القديمة ذات العدسات الغليظة ..عكازه المستند إلی ركبته كصديق ودود.. ودمعته المتحجرة بسموّ فوق مقلتيه و التي تأبی الانهمار بسهولة ..كانوا جميعاً يساهمون في إغناء الحديث وإشباعه بالشواهد..حتى أنهم مجتمعين كان بإمكانهم أن ينوبوا عن حديثه لو هو آثر الصمت..
أما الخالة ليلی ..تلك المرأة السبعينية فهي بحد ذاتها قصة من دون أن تتفوه بكلمة ...قابلتني بصوتها المتهدج قهراً ولسانها الحائر بحثاً عن عبارات الإمتنان ...كنت أرقب وجهها المتسربل بالوقار وعينيها الممتلئتين بمفردات القهر ...حدثتني الخالة ليلی عن أمراضها المتعددة وعن شوقها لأولادها ولبيتها الذي تركت فيه أعز ذكرياتها..كنت أدرك حجم معاناتها من خلال حروفها المتعثرة فوق الشفاه التي ترتجف حنيناً وحزناً وشوقاً ....

وكعادة النساء السوريات حاولت السيدة ليلی أن تنبش ما في بيتها من مدخرات لتقدمها لي علی سبيل إكرام الضيف ...
أشعراني العم أبو مصطفی وزوجته أنني وفدتُ إليهما من كوكبٍ آخر لأطبطبَ علی كتفيهما المشتاقين للمسة حنان من يدٍ سورية .. ولأنزع مخالب الغربة المنغرسة دون رحمة في كبديهما الكليلين..
وبصعوبة استطعت أن أستأذن للرحيل وقد ودعاني بعيونٍ ترجوني لتكرار الزيارة ...وفي طريقي إلی منزلي كنت أتمتم دامعة: كان الله في عون السوريين ..ولاسيما المسنين منهم ...فحين تنفصل الجذور عن التربة يكون الإقتلاع أشدَّ إيلاماً وقسوة ..
حدثت معي هذه القصة قبل أربع سنوات... وبعدها بعام واحد توفي العم الطيب.. ودفن خارج وطنه.. في قبر كئيب... تمر بجانبه وجوهٌ غريبة.. يتكلمون لغة غريبة... حيث لا أبناء يقرؤون له الفاتحة .. ويغرسون بعض فروع الآس... ولا احد سوى زوجة كسيرة الجناحين ...تتأبط آلامها وبعضا من حقن الأنسولين... تجر ذيول ضعفها كل عيد لتبثّهُ كل مابقلبها من أحزان.. ثم تعود الى منزلها وحيدة تنتظر أن يدركها الموت لتلتقي برفيق دربها..
فادية حسون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق