الجمعة، 26 مايو 2017

نص للكاتب أحمد بو قراعة

نص للكاتب أحمد بو قراعة
تنويه . هذه المقالة القصصية محض خيال أي تشابه في الأحداث والأسماء هو من قبيل الصدفة
غير أن غما قد سرى
نهض التلاميذ كأنهم صعقوا واستوت أبدانهم كتاركي الركوع تظاهرا بالخشوع والاستقامة، صفوفا كأنهم في عسكر، أياد مسبولة، والعيون الناضرة إلى أكف مبسوطة على الطاولات في أدب ناظرة. وأطبق سكون فكيه على الفضاء. واستدار الأستاذ وقد كان قريب الأنف من لوح السبورة مجتهدا يحسن خط الحروف العربية ويحاول الدنو من رسمها بأنامل مشرقية تجيد النسج والطبع والخياطة والديباج. انتبه إلى ذلك السكوت غير المألوف، فالتفت فرأى أدبا ونظاما. ونظر حيث زاغت أنظار بعض التلاميذ فإذا قد جيء برجل واقف في أدب وبالسيد المدير صفا صفا يتقدم الثاني الأول بخطوة.
يستطيع الأستاذ أن يميز وجه السيد المدير وأن يتعرف إليه في وجوه قليلة. وسمع أصواتا تقلقل وتجلجل لم يكن صخب التلاميذ وصياحهم وضجيجهم يدعها تتجاوز الحلق بشبر فعرف أن أنوف الأساتذة قد اشتمت رائحة الزائر الثقيل.
رأى الأستاذ في وجه السيد المدير، وفي وقفته وفي "دشداشته" وفي "العقال" الذي عقل "الشماخ أو الغطرة" إلى قبة رأسه وفي قلم بلون الأصيل في يمناه والدفتر المذهب بشماله، رأى شيئا من العجب وبعضا من الكبر ومد الأستاذ يده إلى السيد المدير مرحبا ومصافحا فحول المدير يده اليمنى إلى شماله مسيرا بها يقول: " لقد أمرت الوزارة المتفقد بزيارتك فهو ذا." فتحولت يمنى الأستاذ إلى يمين السيد المتفقد مرحبا و مصافحا أيضا فأحس عند ذلك بنار ابراهيم بين الكفين وشعر بأدب وبعلم وبمعرفة. واستأذن السيد المتفقد في الدخول فدخلا وارتاحت من جديد مقاعد التلاميذ على مقاعد الدراسة. وواصل الأستاذ ما كان قد شرع فيه "شرح نص" في هدوء. وعرف التلاميذ أن الزائر الغريب ممتحن أستاذهم فنشطت العقول وارتفعت الأصابع واستجابت الأفواه. ولم يعبأ الأستاذ بالزائرين ولكنه رأى عين السيد المدير تحدق بنظر غريب في المدرس وفي اللوح وفي التلاميذ ورأى كذلك المتفقد يرسم ويخط في ورق، ولم يعبأ. ورفع المتفقد يده في أدب فقيل له: " يد كريمة ... ما الذي بها ترجو ؟ " فقال :" أن تسمح لي بأسئلة في الدرس ." فسأل فازداد التلاميذ نشاطا ما ألفه أستاذهم فيهم من قبل فشكرهم محببا إليه النشاط والعمل وأثنى على الأستاذ خيرا ما سمعه قط منذ أن نزل مدرسا للغة بمدرسة "المعتصم" واستأذن المدير في مثل ذلك بغير ما استأذن به السيد المتفقد فهجم عليه التلاميذ رافعين أيديهم كالسهام حتى كاد آخرهم يبرك على رأس متقدمهم ثم ختم قوله بسؤال: "والذي عهدناه في أبنائنا من صدق هل يشرح لكم هذا النص سابقا ؟" فردوا بصوت واحد "لا ... لا... أول مرة يا أستاذ ... أول مرة ... " واستغرب الأستاذ السؤال وكاد يغضب ولكنه أسر ذلك في نفسه. وودع المدير القسم وأتم الأستاذ درسه. ودق الجرس فترك التلاميذ القسم فرحين بما قدموه خدمة لأستاذهم في امتحان ظنوه خيرا له. وتقدم السيد المتفقد من الأستاذ يصافحه ويشكره على تيسير وتبسيط وإفادة مثنيا على إتقان اللغة نطقا واستعمالا ثم أغلق الباب عليهما كالخائف ليقول :" لقد راسلتني الوزارة في امتحانك واختبارك يطلب ذلك مديرك، لقد قال له بعض العارفين وهو الأستاذ نادر الغزاوي (أستاذ الدين) بأن العجب مازال يأتينا من بعيد أطراف الأرض ومغربها: فرنسي يدرس (العربي) فأراد المدير أن يبرأ من قول بعمل، والآن وقد عرفت الأمر فألزم صمتا." فغضب الأستاذ غضبا شديدا وأسرها في نفسه وصرها في صر ليوم حر ولكنه ضحك من قوله (مديرك والعربي والدين). والتحقا بالمدير في (صالونه وفتح في الدرس حوار ومد الحوار أذرعه إلى النحو والبلاغة والمنطق فاهتدى الأستاذ من الحوار أن المدير (أبا بكر يعلى) مازال ولدا لم يتجاوز الثلاثين في ثوب خليجي أنيق ونظيف ولكنه ليس منه. لقد استراهما ودخل فيهما دخيلا بلسان يحاول وثوب يواري، وعرف أيضا أن السيد المتفقد شيخ أردني شيخ مجيد ومعبأ بالأدب ممتلئ به. وجيء بالقهوة يأتي بها عامل هندي أزرق اليدين فاحم الوجه في فناجين صغيرة لا يسع أحدهما رغوة فم الرفيع بها طعم "الهيل" وأذن للأستاذ بالانصراف فترك (صالون) المدير الفاخر مسرور الوجه في سريرته ألم يكاد يقلع الغيظ ويبلع الفيض وأبت عليه نفسه الحنق رغم أنه قد رأى الشيطان رأي العين يذكره بما نسيه غيره من الإنس والجن من أقبح أشعارهما ولكنه طأطأ رأسه وسار يكاد يضحك بريد قاعة المدرسين.
في قاعة مدرسي لغة العرب وجوم وذعر وخوف وسكون حتى صار لرفيف أجنحة الذباب صوت لا يعسر على الأذن سماع زفها. ولم يكد الأستاذ يضع فيها قدما حتى نهض الأساتذة جميعا حيارى متسائلين : أمازال المتفقد معتصما في المعتصم ؟ تكون أذنك بارة صالحة لو كانت راصدة لخبر نعرف به ثنية أي منا سيطلع منها هذا الزائر ؟ ونظر فيهم الأستاذ وقال: تركته محتارا أتقع رجله في بيت مصري أم دار سوري ورأيته يحد قلما ويعد ورقا. ورأت الجماعة في وجه الأستاذ ما قد يلحق بوجوههم من غضب ومكروه فمنهم الملدوغ وفيهم المهموم وفي وجوه بعضهم مقت وكره وقطع ذلك مجيء العامل الهندي فرأوا في قدومه وفي منظره شؤما ونحسا ونذيرا ووعيدا، ولكنه سارعهم بصوت غريب يقول : "يا أستاذ ... الوكيل إنت إيريد." فسارعه الأساتذة بصوت واحد "المتفقد عند المدير ؟ " فرد :" هو يروخ ... أناهو يشوف يروخ" فانشرحوا وعادت السلامة تحيط في وجوههم ثوبها.
كان بين الأستاذ وبين وكيل المدرسة، اليمني الأصل، مودة ومحبة واحترام، رجل متأدب فكه، حيي، عتي في الحق لا يلين، لين الجانب يروم الحوار، غني اللسان ثري الزاد، نقي السريرة خافض الجناح لا يقول أفا لمختلف معه يرى فيه الأستاذ شيئا من تركة العرب فأحبه واحترمه وأسكنه فؤاده. وكان الأستاذ يدري أن صاحبه يريد له الاطمئنان لما رأى في وجهه من ألم وغضب.
استأذن الأستاذ الدمشقي عبد الحي خلوف في المرافقة وكان يزعم صداقة ويبدي للأستاذ ودا ظاهرا لا يخالف باطنا. وسارا متحاذيين يتهامسان ويتسارران ويتضاحكان نشرت عليهما الصداقة رداء من الحبور والسرور .
نهض الوكيل لما رأى صاحبه فسلم وعانق مغتبطا متيقنا من خبرة في صديقه وسلامة يقول: " أهلا وسهلا بالأستاذ (كذا) التونسي المغاربي العربي المسلم ... الأخ الكريم." فقاطعه الأستاذ عبد الحي بصوت حاد زينه باللين، باسطا كفيه في وجه الوكيل قد أحنى رأسه وقوس ظهره "يا أستاذنا الفاضل، وأنت الأدرى بكتاب الأنساب فهو في اليمن في لوح محفوظ ... الأستاذ (كذا) نعم، تونسي نعم، عربي نعم، مسلم ... وسكت. وتلاعبت يمينه بيده يبدي ظاهرها وباطنها ملوحا بإبهامه يمينا وشمالا، وعوج لسانه وأرخى شفتيه: هذا ... اممهه." ونظر فيه الأستاذ مستغربا كارها ما قال لكنه ضحك في وجهه وقال: نعم، نعم في كل ما قلت وجهلا فيما ادعيت، ولقد قرأت فيما قرأت فأحصيت لك رجوعا في صحابة الرسول وأتباعه ... ولولا حياء فينا وحب وصدق ونماء في ذلك لأضفت فيك إلى " المقامة القردية" فصلا ولغرزت فيك نصلا وعصرتك عصرا فتخرج منك ريح بصلا ولكسرتك زجاجا لا يعاد لا سبك أو جبر ... فماذا أردت بهذا مثلا ؟
وضحكت والوكيل ضحك طفلين معا ... غير أن غما سرى في دم عربي قد جرى ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق