الأربعاء، 31 مايو 2017

البحث عن الحياة تصدير،،احمد بو قراعة

البحث عن الحياة
تصدير
ألا قل ويل للذين يموتون ثم لا يبعثون
محمود المسعدي
أخذ العمر من الرجل ما تأخذه العلة الشديدة من الصحة والعافية، لم يكن متعوّذا من الكبر أو مستعينا عليه بكان . يغالب المرض ببقية سلامة يزيدها ثباتا بإصرار على الحركة وعناد الوهنِ، يحثّ جسدا أكلته الأتعاب ومصَّتْ دمه العقود وسلبته اللحم ورقَّقت فيه العظم وكادت تصلِّب الشرايين. يستنهض فيه همَّةً فينهضُ ويهمُّ. يطرد الدَّعةَ ويستجيب على قدر ما يُطلبُ منه.
يحاول الرجل ألا يظل عينا أصابها العمش والعشي، ويجتهد ألا يبقى لسانا يطلب ويريد ويدا تمتد فتأخذ وفما ينفتح ليبلع.
غالبَ وعزمَ ورفشَ ونبشَ نبشَ السَّاهر في الصَّقيع يحرِّك الرَّماد في قعره جمرة يحييها أبدا في أغوار ذلك الجسد جذوةً سخنةً أو حصاة متجمِّرة ينفث فيها من وهجِ إرادةٍ لا تريد أن تموتَ.
كان يتبرم من كلمة ظاهرها احترام ومحبّة "سيدي الحاج" أو "الشيخ" ويتحرّج من أن يمسك بيده أحد يقطع به الطريق خوفا عليه. يلقي راحة في الصعود والتسلق وضيقا في الهبوط والانحدار لا يريد أن يسمع كلمة عطف واشفاق. كان ذلك عبءا ثقيلا على نفس تكره النوم، يكره عبارة توحي له بالعجز وتذكره بالقارة العجوز وتربط جسده بجذوع هذه الأقطار التي تظن أنها تتنفس وتتحرك. يريد أن يخلص نفسه ويعتقها من أن توصل بكل هذا المتوهِّم حياة يتخيل قاعدا وباركا الحركة وتسبح به الرؤى نائما نحو البعيد وفي أعماقه رسوخ وثبات وركود وموت.
لم يكن هذا الرجل يعيش خيالا ووهما حتى أنه كان يقيس لكل طريق خطوته التي تحتاجها ولكل حفرة يحدد الفحجة. يرى الكون هندسة وأَعْظِمْ بها من هندسة في هذا الجسم المخلوق في أحسن صورة وراء كل نضو حركات ووراء كل عضو طاقات... إبداعُ مُبْدِعَ بديعٍ فهلْ بِدْعَةُ في احتذاء صنع البديع ... صابرٌ يقتدي بصبورٍ وفاعلٌ يقتدي بفعّالٍ.
رجل تستقر فيه كل ثروة بشرية يعرف مسكنها وطاقاتها وسبل تحريكها ... يحركها فتستجيب لنداء فعله وقد يُكرهها عزمه فما تجد لنداء فعله وعزمه ردّا أو صدّا. طَالِبُ نفسه دائما يستفزُّها ويخزها ويحضُّها.
لم يكن يحمد جسده ولا يرى له على كبره ومرضه وأسقامه فضلا أو صدقة ومنّا، فالحمد لله، والحمد لله على عزم مستحث وعزيمة حية تغالب القهر والعجز وتصنع من الآلام أعمالا وتكره الأحلام والآمال ولا ترجو أو تتمنى وإنَّما تقيس وتخيط وتلبس. ويرى فيه الناس ثورة ومغايرة وخروجا ونبذا وإكراها وخلاصا وتمرُّدا وتوقا وخرقا فيلقى كل ذلك منه ردعا وصدًّا يقول : " إنَّما ذلك في النّاس خرق وخرف، هم كواقعهم في تربتهم: ثروة وزعم ثورة وخيال يقتدي بوهم وتوهم يركب سرابا، وعواصف كلام، ودواوير رياح أقوال،، وفعل منهوك وروح مشطورة سليلة علل. هم كالناظر في نفسه بعين العروس وأرى نفسي بعين علَّتي فأقدّر الطُّول والعرض وخطوتي وممشاي وأيّ سبيلٍ تنهضُ له همَّتي فأحرِّشها على التعب وأحثُّها على قتل النصب ومعاداة العلَّة والعجز والمرض فتكبر فيَّ همَّة تطلب سعيا وحركة وتحقيقا. أنا شطر من هذا الواقع والواقع مفتقر إلى شطري. أعيش بشطرين ويعيش الواقع بشطر وبوهم. هم كالدهريين أرحام تدفع وأرض تبلع وأنا الخياط في جسدي ومنه عملا. أنا رب جسدي أحيي ما أودع الله فيه من طاقات وأسرار .. يقول ذلك في صمت لأنه كاره كلام وتارك أقوال، لذلك هبّ الناس في جنازته مبتئسين متوجعين متفجعين في أعينهم دموع حبٍّ قطَّرها الفراق وعصرها الوداع، وتزاحم الناس في تناوبهم على حمل نعش فوقه جسد ميّت كان يحييه العزم وتسكنه الهمَّة ويفارق السكينة. ولما كاد الناس يلجون باب جبانة صَغُرَ من زحامٍ وخلقٍ كثيٍر كثر صياحهم واختلط صراخهم وتعاركت الأيدي وتدافعت الأرجل، فهارب يلقي رأسه رأس غيره، ومنبطح على الأرض يستغيث من فاجعين، ومسابق يثير الغبار يلاحقه مذعور يحاول كمش ثوبه. وفي كل جهة صراخ وصياح وهروب وتعثر وانبطاح: لقد نهض الميت رفع رأسه، وعالج الكفن ففك يديه وسرّح بهما فكيه وقعد متربعا فوق النعش ضاحكا ينادي: "كانت إغماءة طويلة كاد لها المرض فكاد النبض أن يسكت وكنت إذ تحملوني أثبتُ فيَّ العزم والحياة فيتحرك قبل أن تدفنوني ففعل فأنا ما ترون. تعرفون الموت بأجسادكم الهامدة وأرواحكم الجامدة فسارعتم بي نحو مصرعي. فعودوا فما عادت لي الحياة لأنها غابت عنكم وما فارقتني." ثم عاد وحيدا مطمئنا إلى جسده وروحه فارقه الناس وهربوا منه وعاشروه بعد ذلك زمنا بين خائف أو متبرّك به وكان لذلك غير عابئ.
وتساءل الناس واستغربوا وأغربوا في القول وفيه شرّقوا وغرّبوا، فيهم نبيه يقول "ذاك حادث يحدث، وقد كان مثله، ولو مات ما عاد أو قام.." وفيهم قليل عقل وممسوح بصيرة فتح باب المعجزات وسعى به وهمه إلى أصحاب الكهف. وفيهم من سبقه عقله إلى الفهم والحق يقول: "ما ينتظر معجزة من السماء تحييه وتقيمه وتقوّم ظهره وترفع رأسه وتعدّل بصره وتنهضه من قعود وتثبّته في المكان عَرصة بين العرصات أو متحرِّكا بين المتحرِّكين أو كائنا بين الكائنات أو موجودا بين الموجودين أو جزءا من المكان يفيد ويستفيد ويفعل ويحقق ويطعم ويُطعم إلا الجاهل الكافر برب أعطى وهدى." وسانده متقدم عنه يرى أن المعجزة في الرأس وفي اليد. رأس تستنبت ويد تحفر وتصنع. ومنهم من ظل يستعيد قول الرجل: " أنا شطر من هذا الواقع والواقع مفتقر إلى شطري. أعيش بشطرين ويعيش الواقع بشطر وبوهم."
وظلُّوا كذلك زمنا غير بعيد حتى أذّن مؤذّن أن قد مات الرجل ميتة أخرى فاسعوا إلى جنازته سعيكم الأول فسعوا. وحمل الرّجل مكفّنا مغطّى موثوق اليدين، مربوط الرّجلين، محزم الرأس على عربة يجرها بغل يصفر له صاحبه من بعيد فيأتيه مترنحا ثقيلا كالسكران يمشي الهوينا. وحاق الناس بالموكب المطمئن من بعيد. ينظر المتقدم إلى المتأخر كالمتأهب للفرار والمستعد للهرب يرصد منفذا. وسار البغل بالرجل الميت إلى حفرة قد حفرت وتشجعت بعض لحىً طويلة لم تكن تقرأ في السكر شيئا فصارت ترى أنَّ السُّرور في الحياة محظورٌ وأن للموت فقط سلطةً وحضورا، فدفنوه سريعا. وظلَّت النساء ينتظرن خارج المقبرة بألسنة النساء وعقولهنَّ ... حتى النساء خرجن في جنازته..
أحمد بو قراعة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق