السبت، 6 يوليو 2019

التلّة مازالت بخير _ وليد.ع.العايش

التلّة مازالت بخير _
________
لم يكن ذاك المساء يوحي بشيء ما داني الحدوث ، فكل ما حولَ التلّة المحاطة بأشجار كثيفة كغيوم كانونية هادئ للغاية ، حتى أنّ العصافير كانت تهلو غير عابئة بأيّ طارئ .
قواعد الاشتباك لم تتغير منذ أكثر من شهرٍ ونصف الشهر ، الحال يراوح مكانه : ( سوف نُجري تعديلاً في بعض المواقع أيّها القائد ، عليك بالبقاء مع مقاتليك هنا وانتظر منا رسائل جديدة ) ، صمتَ عاصمٌ الرجلُ القويّ البنية الأسمر الوجه الذي لفحته الشمس مراراً منذ سنواتٍ برهةٌ وهو يُناظرُ الأفق ، بل كانت عيناه تخترقان ما وراء المساء ، وتلك الأشجار المكتظة بحنين ما : ( لا عليك يا سيدي ، سنكون هنا كما أمرتْ ... ) ومالبث أن أردفَ : ( هل منْ خُطةٍ ما ؟ ) ... لم يأت الجواب لسؤاله الأخير , فقد كان المتحدثُ قد غادر المكان ...
على كل حالٍ لم يكن عاصم وحيداً هناك ، معهُ مجموعة مقاتلة من سبعينَ رجلاً خَبِروا القتالَ جيداً ، الجميعُ يعملون كيدٍ واحدة ، بعضهم مُرابِطٌ على هذه التلّة منذ أكثر من ثلاث سنوات ، لم يُكتبَ له المغادرة لزيارة بيته ، أو رؤية أطفاله ، أو أمّه ...
إنّها الحربُ التي تضع الإنسان في موقفٍ واحد لا بديل لهُ , ( تعالوا ... تعالوا أيُّها الرجال ) , صرخ عاصمٌ بصوته الجهوري المفعم بالشجاعة والثقة ، تردد الصدى في المكان ، لحظاتٌ مرّت والكلّ أصبح في مُتناول الليل ...
علا الضِحكُ ، انتشرتْ النُكات ، كل واحد كان يحكي حادثة ما ، أو طرفة حدثت ذات يوم , الطعام كان في أدنى مستوى له ، لكنَّ بطون الرجال لا تكترث بذلك ، الزنودُ السمر تُداعِبُ النسمات العابرة من نافذةٍ تُطلُّ على التلّة ...
انتهت السهرةُ الرمضانية : ( اذهبوا وارتاحوا ، سأبقى أنا وبعضكم هنا للحراسة كونوا بخير يا أولادي ) ... ( سيدي هل لي بإرسال رسالة إلى أمي من هاتفك !!! ) ... ضحكَ عاصمٌ ملئ فِيْهِ ، دفعَ بالهاتف المُكَسّر الجوانب إلى الجندي الصغير : ( ابعثْ ما تشاء يابنيّ ) ... ( أمي الحبيبة , أعرف بأنكِ اشتقت لي كثيرا , وأنا كذلك , اشتقت لك ولإخوتي وأبي , وحارتنا القديمة , اشتقتُ إلى ألعابي , لكني أعدك بالنصر أولاً , وبأن أعود إليكِ قريباً بإذن الله ) انتهت الرسالة هنا فلا مجال للكتابة أكثر , ربما حضرت الدموع لديه ولدى من قرأ الرسالة من رفاقه ...
انقضت ساعات قليلة ، الهدوء والسكون يُغرقان المكان ، أصواتُ الموسيقا المُندفعة من جهاز راديو صغير تتقهقرُ فجأةً ، لمعتْ عينا عاصم : ( انظر ... انظرْ يا أحمد ... لعلك ترى أكثر مني ) ... أمسك أحمد بجهاز المراقبة ونظر إلى حيثُ أشارَ القائد : ( نعم هناكَ شيء ما يا سيدي ) ...
( إذن أسرع وأيقظ رفاقك ، ليكن الجميع على أهبّة الاستعداد , هؤلاء لا عهدَ لهم ) ...
سكون الليل الذي كان جميلاً قبل قليلٍ ينكسِرُ للتوّ ، أزيزُ الرصاص بدأ يعلو شيئاً فشيئاً ، تناول عاصم جهازهُ : ( هناك هجوم يا سيدي ، نحتاج رُبّما للدعم من قبلكم ) ، اقتربتْ الأشباحُ أكثر ، ازداد الرصاص انهماراً : ( لا عليك نحنُ نراقبُ الموقف ، سنرسل الدعم اللازم حالاً ) ... جاءهُ الرد ...
أصبح الليلُ مُضيئاً في ذاك الوقت الحائر بين الموت والحياة ، المقاتلون يزفّون بعضهم بأناشيد ممتزجة بكثير من القوة والحماسة والضحك أيضاً ، لعله كان مخرجهم لتناسي ما يدور أمامهم , لا مكان للخوف ، لا مكان للخائفين هنا ، البنادقُ تُزغرِدُ في شتى الاتجاهات ، الاشتباكات تزدادُ عنفاً ، : ( استعملوا كل ما لدينا من أسلحة ، يبدو بأنه هجوم كبير ) ...
أصبحت خيوط الفجر على مرمى حجر ، الأشباحُ بدأتْ باللُهاث خلف التلّة ، أصوات الرصاص تهدأ رويداً رويداً ...
( إنّها دبابة هناك يا سيدي ... هي تحت المرمى ) ... : ( عاملِها بسرعة يا عليّ ) ، لحظة سريعة تعبرُ ( ما بك لا ترد ) ... : ( لقد نفذت الذخيرة أيّها القائد ) ... اجتمع المقاتلون قرب عاصم ، كانت بعض الوجوه شاحبة ، لكن الليل أخفاها بسرّه ، مازالوا ينتظرون بلوغ الفجر : ( ماذا بقي لدينا من ذخيرةٍ أيّها الرجال ) ... صمتَ الجميعُ ... كان سكوتهم آنذاك جواباً كافياً : ( لديَّ رصاصةٌ واحدة وحزام ناسف ، ماذا لديكم أنتم ) ... صرخ جندي كان لم يحضر الاجتماع منذ بدايته : ( لدي قنبلة دفاعية يا سيدي ) ... اِبتسمَ القائد الأسمرُ في سرّه ، أمسك بجهازه الخليوي وكتب : ( سيدي لقد نفذت ذخيرتنا ، نحن بحاجةٍ لكم الآن ... ) ...
شيء ما يتحركُ صوبَ الدُشمة الكبرى ، إنّهُ صوت عربة قادمة بسرعة فائقة : ( سيدي ... سيدي لاشكَّ إنّها عربة مفخخة ، هل تسمحَ لي بمواجهتها ) ... قال الجندي الذي يملك القنبلة : ( لكَ ذلك ، لكَ ذلك ، حاولْ ألاّ تصلَ إلى هُنا ) ...
انطلق الجندي من دربٍ فرعي مُلتفاً حول التلّة ، لحظات وكان بالقرب من العربةِ الطائشة ، انتظر حتى أصبحت على بُعدِ أمتارٍ فقط ، قفزَ إليها كباشقٍ انقضَّ على فريسته من علوٍّ شاهق ، فتح قمرة قيادتها بيده اليسرى ، بينما كانت أسنانهُ تنزعُ مسمار الأمان ، دفعَ بها إلى القمرة ، صوتُ دويِّ انفجارٍ هائل ، تتالت الانفجارات ، تصاعدت النيرانُ من العربة ... : ( رحمك الله أيّها البطل ) ... قال عاصم ، صرخ رفاقه المقاتلون : ( الله أكبر ... الله أكبر ) ...
جعجعةٌ كبيرة تقترب كثيراً ، الأشباحُ تعاوِدُ هجومها كالجرذان هذه المرّة ، أمسكَ عاصمٌ ببندقيته ، سددها إلى السماء ، أطلقَ رصاصته اليتيمة ...
رنَّ هاتفهُ لفترة طويلة - لا أحد يُجيب - تناولَ جنديٌّ بساقٍ واحدة الهاتف المهشم ، لكنّهُ كان قد صمت ، فتحهُ وقرأ رسالةً وصلت حالاً : ( لقد وصلنا إليكم يا عاصم ، حددوا مكانكم ) ... كتبَ الجندي بلهفة : ( لا تقتربوا ، لا تقتربوا يا سيدي ، التلّة مازالت بخير ) ...
________
وليد.ع.العايش

20/6/2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق