غريبة هذه المدينة
كان ذلك منذ زمن قريب حين رأيته مرّة أخرى في إحدى شوارع المدينة حيث في الدّاخل رفَعَت المَبَانِي رؤُوسَها في شموخ وتكبّرٍ. و فتّحت القصور العظيمة شرفاتها الذهبيّة تحتضن روائح البساتين وتغتصب أزهار الحقول وتكسّر ذراعَ الشمس فلا يداعب جفون الأرض الحالمة بِلَمسة من لمسات أنامل آلهة النّور والنّار والسّحر فتوقظ بنتها البكرَ الحياة وتلد طفليها البعث والعطاء.
كلّ شيء جميل في قلب تلك المدينة وغريب وعجيب : مَبانيها، قصورها،حدائقها،خمّاراتها، حتّى الحيوانات والبهائم فهي أشدّ جمالاً وأدبًا وذكاءً. فالكلابُ لا تنبح في السوق جهارًا بل هي لا تنبح البتّة. وقد قال عارف بلغة الكلاب ودارس نفسيّاتها وأحاسيسها إنّه سمع بعض الكلاب تتخاطب أمام بوّابة مذبحٍ من مذابح المدينة الكثيرة فما سَمِع لفظا أرقَّ من لغة الكلاب وأعذب منه وأصفى من كلامِ إناثها بل لم يسمع شعرا رقيقًا عذريًّا كذاك الذي ألهمته عيون كلبة صغيرة وفتاة من حسناوات الكلابِ. فاتنة القِوام تكحّلت أهدابها بالعشق وتكلّل رأسُها بالهوى، كلبا فتيًّا سَحَرَتْه فالشعر عذري لطيف.
أمّا أحمرتها الكريمة فهي قصيرة و جميلة وبلا حوافر، صغيرةُ الرؤُوس وعيونها كاجمل عيون نساء الملاهي. و أعجب ما في تلك البهائم الجميلة والوديعة آذانها الطّويلة فلا تُشبه آذان بهائم العالم القصيرة والقبيحة. وقد قيل إنّها ترى وتتكلّم بها. وقد تأتي بعض الأحمرة عجبا ومعجزة فتأكل بآذانها.
كلّ شيء جميل في قلب تلك المدينة ومبهج وفتّان وضاحك ولامع حتّى رجالها تجمّلوا كالطّواويس. جمال طبيعيّ من عند الواهب، أوْ هو ربّما وجه فينوس فرّ منها ليلاصق جميع الوجوه البرّاقة، بل قد زعم لي بعض كهّان تلك المدينة، وآمنتُ، وكيف أنكر حقًّا جليلا صدع به صَدر كاهن مُختار، أنّه وجَد في بعض الكُتب القديمة أنّ نَاسَ تلك المدينة من سلالة آلهة الحبّ والجمال. لذلك يُخيّل للغافل والحمق فينا أنّها مدينة النساء الجميلات. و لكن أعوذ بكلّ آلهة قديمة وجديدة، وبكلّ إله يولد من الزمن الآتي من جهل وحمق وحاشا أن تسكن تلك المدينة مومس أوْقَحْ...و أستغفر الله أطنانًا من ذنوبٍ أتيتها وآتيها...
كلّ شيء جميل في قلب تلك البقعة الجميلة والكريمة، حتّى الضحكات خافتة ونديّة والعيون تائهة و مريضة وذات شعاع حماسيّ و أمّا الالتفاتات فشفّافة غزليّة. وحتّى القادم الغريب الأعمى قد يستنشق رائحة اللطافة والرّهافة ويتنفّس انعطاف وتثنّي وتميّس الأعواد الرّقيقة مع تميّس الأرياح الرّطبة وانصياع النسيم.
كلّ شيء جميل في قلب تلك الرّقعة الكريمة ولكنّه جمال غريب عجيب وفرط الجمال فيها توحّش.
أمّا أقدام تلك المدينة فهي أيضا متشابهة. فمن بعيد تلفّ المدينة سلسلة من الكهوف والمغاور والأكواخ والبيوت القصيرة والمنازل المتهدّمة والجدران المنهارة وحيث الخراب يحجّ إليه العَرَاءُ للتنسّك والعبادة. و حيث المزابل الجبال العالية يرفع فوقها وتحت أقدامها الكلابُ والقططُ والذبابُ آذان الصّلاة الدّائمة. و يدبّ أشباه صور الأطفال يرتعون كأبناء المواشي القذرة ويتنافرون كأطفال الخنازير أمام بقايَا البغال وروْث الأحمرة الآدمية وَسَعَتْ أشباهُ النّساءِ بخطى مسحوقة يبحثن عن حجارتين لإيقاد النّار لطبخ الجوع.
كلّ الأشياء فيها متشابهة، الأشباح والناس والبهائم والأطفال والكلاب وهياكل العظام المنخورة والشّياهِ الهزيلة والنساء والبغال والأيدي المعروقة وجفاف الوجوه والنظراتِ الكئيبة.
كلّ شيء شَبَهٌ حتّى الطيور تنعق كالغربان فلا فرق بين الشحرور والبوم والغراب. وكلّ شيء متهدّم ومنهار وجامد وصامت وساكن إلاّ الدّيكة فوق المآذن تنادِي وتصدح. و قد قال عارف بها إنّها كريمة من سلالة نواقيس الكنيسة، تنقر الفضاء فتشبع وتنتشِي عروقها.
كان الصبيّ يقود حمارًا يركبه شيخ ذو وقار قديم وهيبة القرون الماضية وتكبّر ملوك الزمن الغابر. وكان كلّما مشى خطوة التفتَ إلى الناس ثمّ ضحك سِرًّا وأعلن خجله ونظر إلى الشيخ ومدَّ يدًا ناعمة وقويَّةً يُسوّي نظّارتَيْ سيّده ويحرّك رأسه والرّجل يرفع حاجبين غليظين كثيفين. و تتحرّك فكّاه دون أن يُفتح فاهُ. و تُسمع قلقلةٌ خافتة تنمّ عن صناعة قديمة في قوّة الطّحن. وتنتفخ أَوْدَاجُه كالثعبان ثمّ تنفرج فتنفلت "بضبضة" متقطّعة ولكنّها قويّة تشفعها كحّة غليظة تخرج كالحيّة ويسعل سعلة "أهل الكيف والمِحْنَة" ويمضغها مرارًا ثمّ يُلقيها والناس يرفعون أيديهم بالتحيّة، ومنهم من جرى نحو الموكب ثمّ انحنى ودار كالكلب يَعضُّ ذَيْلَهُ ثمّ يعود والشيخ يُشير برأسه رفْعًا وخفْضًا علامة الرّضى.
و لمّا لقيت الفتى سألته في ذلك قال : عمدة المدينة يفتح دارَنَا. فقلت : و هل أهل الدّار من قوم شِرْك وكفر وإلحاد؟ فأجاب : لن تدخل أرحام الأمّهات الإسلام والدّين الحقَّ إلاّ إذا جاءها...لقد زعم الناس الشيوخ أنّه الفحْل...الفحْلُ في المواشي.
ثمّ ابتسم وقال : لقد أخبرْت الشيخ الكريم أنّ والدتي مريضة لا تقدر. فقال زَوْرَتِي تُحْيِي الأرحام الموات. وانْظُرْ تَرَ الوجوه متشابهةً لأنّها منّي ومن أمّهات...
و حين سألته في ابتسامته سِرًّا قال : سمعتُ صوْتًا من وراء الغمام يقول : أين يذهب هذا العمدة الدّيك صاحب الحمار ؟ كان روح أمّي يعانق العوالم الأخرى ويلعن هذا العالم الصّغير والشيوخ والعمدة والفحولة وأرحام النساء. و رأيت العالم متمثّلا أمامِي فأضحكتنِي صورتُه... أليس من العجب يا سيّدي الغريب أنْ نُولَدَ من رحَم تشقّقه فحولة زعْمٌ...أليست شريفة والدتي أيّها الصّديق الغريب حين شربت الموت لمّا علمت أنّ العمدة اختارها ذاك الصّباح وركب حماره إليها...أليست غريبة هذه المدينة...و الغريب يا سيّدي أن تتشابه كلّ القرى وكلّ المدن...الكلّ شبه غريب...غريب يا سيّدي...و مَضَى الفَتَى.
أحمد بو قراعة : تونس
كان ذلك منذ زمن قريب حين رأيته مرّة أخرى في إحدى شوارع المدينة حيث في الدّاخل رفَعَت المَبَانِي رؤُوسَها في شموخ وتكبّرٍ. و فتّحت القصور العظيمة شرفاتها الذهبيّة تحتضن روائح البساتين وتغتصب أزهار الحقول وتكسّر ذراعَ الشمس فلا يداعب جفون الأرض الحالمة بِلَمسة من لمسات أنامل آلهة النّور والنّار والسّحر فتوقظ بنتها البكرَ الحياة وتلد طفليها البعث والعطاء.
كلّ شيء جميل في قلب تلك المدينة وغريب وعجيب : مَبانيها، قصورها،حدائقها،خمّاراتها، حتّى الحيوانات والبهائم فهي أشدّ جمالاً وأدبًا وذكاءً. فالكلابُ لا تنبح في السوق جهارًا بل هي لا تنبح البتّة. وقد قال عارف بلغة الكلاب ودارس نفسيّاتها وأحاسيسها إنّه سمع بعض الكلاب تتخاطب أمام بوّابة مذبحٍ من مذابح المدينة الكثيرة فما سَمِع لفظا أرقَّ من لغة الكلاب وأعذب منه وأصفى من كلامِ إناثها بل لم يسمع شعرا رقيقًا عذريًّا كذاك الذي ألهمته عيون كلبة صغيرة وفتاة من حسناوات الكلابِ. فاتنة القِوام تكحّلت أهدابها بالعشق وتكلّل رأسُها بالهوى، كلبا فتيًّا سَحَرَتْه فالشعر عذري لطيف.
أمّا أحمرتها الكريمة فهي قصيرة و جميلة وبلا حوافر، صغيرةُ الرؤُوس وعيونها كاجمل عيون نساء الملاهي. و أعجب ما في تلك البهائم الجميلة والوديعة آذانها الطّويلة فلا تُشبه آذان بهائم العالم القصيرة والقبيحة. وقد قيل إنّها ترى وتتكلّم بها. وقد تأتي بعض الأحمرة عجبا ومعجزة فتأكل بآذانها.
كلّ شيء جميل في قلب تلك المدينة ومبهج وفتّان وضاحك ولامع حتّى رجالها تجمّلوا كالطّواويس. جمال طبيعيّ من عند الواهب، أوْ هو ربّما وجه فينوس فرّ منها ليلاصق جميع الوجوه البرّاقة، بل قد زعم لي بعض كهّان تلك المدينة، وآمنتُ، وكيف أنكر حقًّا جليلا صدع به صَدر كاهن مُختار، أنّه وجَد في بعض الكُتب القديمة أنّ نَاسَ تلك المدينة من سلالة آلهة الحبّ والجمال. لذلك يُخيّل للغافل والحمق فينا أنّها مدينة النساء الجميلات. و لكن أعوذ بكلّ آلهة قديمة وجديدة، وبكلّ إله يولد من الزمن الآتي من جهل وحمق وحاشا أن تسكن تلك المدينة مومس أوْقَحْ...و أستغفر الله أطنانًا من ذنوبٍ أتيتها وآتيها...
كلّ شيء جميل في قلب تلك البقعة الجميلة والكريمة، حتّى الضحكات خافتة ونديّة والعيون تائهة و مريضة وذات شعاع حماسيّ و أمّا الالتفاتات فشفّافة غزليّة. وحتّى القادم الغريب الأعمى قد يستنشق رائحة اللطافة والرّهافة ويتنفّس انعطاف وتثنّي وتميّس الأعواد الرّقيقة مع تميّس الأرياح الرّطبة وانصياع النسيم.
كلّ شيء جميل في قلب تلك الرّقعة الكريمة ولكنّه جمال غريب عجيب وفرط الجمال فيها توحّش.
أمّا أقدام تلك المدينة فهي أيضا متشابهة. فمن بعيد تلفّ المدينة سلسلة من الكهوف والمغاور والأكواخ والبيوت القصيرة والمنازل المتهدّمة والجدران المنهارة وحيث الخراب يحجّ إليه العَرَاءُ للتنسّك والعبادة. و حيث المزابل الجبال العالية يرفع فوقها وتحت أقدامها الكلابُ والقططُ والذبابُ آذان الصّلاة الدّائمة. و يدبّ أشباه صور الأطفال يرتعون كأبناء المواشي القذرة ويتنافرون كأطفال الخنازير أمام بقايَا البغال وروْث الأحمرة الآدمية وَسَعَتْ أشباهُ النّساءِ بخطى مسحوقة يبحثن عن حجارتين لإيقاد النّار لطبخ الجوع.
كلّ الأشياء فيها متشابهة، الأشباح والناس والبهائم والأطفال والكلاب وهياكل العظام المنخورة والشّياهِ الهزيلة والنساء والبغال والأيدي المعروقة وجفاف الوجوه والنظراتِ الكئيبة.
كلّ شيء شَبَهٌ حتّى الطيور تنعق كالغربان فلا فرق بين الشحرور والبوم والغراب. وكلّ شيء متهدّم ومنهار وجامد وصامت وساكن إلاّ الدّيكة فوق المآذن تنادِي وتصدح. و قد قال عارف بها إنّها كريمة من سلالة نواقيس الكنيسة، تنقر الفضاء فتشبع وتنتشِي عروقها.
كان الصبيّ يقود حمارًا يركبه شيخ ذو وقار قديم وهيبة القرون الماضية وتكبّر ملوك الزمن الغابر. وكان كلّما مشى خطوة التفتَ إلى الناس ثمّ ضحك سِرًّا وأعلن خجله ونظر إلى الشيخ ومدَّ يدًا ناعمة وقويَّةً يُسوّي نظّارتَيْ سيّده ويحرّك رأسه والرّجل يرفع حاجبين غليظين كثيفين. و تتحرّك فكّاه دون أن يُفتح فاهُ. و تُسمع قلقلةٌ خافتة تنمّ عن صناعة قديمة في قوّة الطّحن. وتنتفخ أَوْدَاجُه كالثعبان ثمّ تنفرج فتنفلت "بضبضة" متقطّعة ولكنّها قويّة تشفعها كحّة غليظة تخرج كالحيّة ويسعل سعلة "أهل الكيف والمِحْنَة" ويمضغها مرارًا ثمّ يُلقيها والناس يرفعون أيديهم بالتحيّة، ومنهم من جرى نحو الموكب ثمّ انحنى ودار كالكلب يَعضُّ ذَيْلَهُ ثمّ يعود والشيخ يُشير برأسه رفْعًا وخفْضًا علامة الرّضى.
و لمّا لقيت الفتى سألته في ذلك قال : عمدة المدينة يفتح دارَنَا. فقلت : و هل أهل الدّار من قوم شِرْك وكفر وإلحاد؟ فأجاب : لن تدخل أرحام الأمّهات الإسلام والدّين الحقَّ إلاّ إذا جاءها...لقد زعم الناس الشيوخ أنّه الفحْل...الفحْلُ في المواشي.
ثمّ ابتسم وقال : لقد أخبرْت الشيخ الكريم أنّ والدتي مريضة لا تقدر. فقال زَوْرَتِي تُحْيِي الأرحام الموات. وانْظُرْ تَرَ الوجوه متشابهةً لأنّها منّي ومن أمّهات...
و حين سألته في ابتسامته سِرًّا قال : سمعتُ صوْتًا من وراء الغمام يقول : أين يذهب هذا العمدة الدّيك صاحب الحمار ؟ كان روح أمّي يعانق العوالم الأخرى ويلعن هذا العالم الصّغير والشيوخ والعمدة والفحولة وأرحام النساء. و رأيت العالم متمثّلا أمامِي فأضحكتنِي صورتُه... أليس من العجب يا سيّدي الغريب أنْ نُولَدَ من رحَم تشقّقه فحولة زعْمٌ...أليست شريفة والدتي أيّها الصّديق الغريب حين شربت الموت لمّا علمت أنّ العمدة اختارها ذاك الصّباح وركب حماره إليها...أليست غريبة هذه المدينة...و الغريب يا سيّدي أن تتشابه كلّ القرى وكلّ المدن...الكلّ شبه غريب...غريب يا سيّدي...و مَضَى الفَتَى.
أحمد بو قراعة : تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق