الأربعاء، 26 أبريل 2017

جديد أحمد بو قرّاعة قارئة الأرحام

جديد أحمد بو قرّاعة
قارئة الأرحام
المقدمة: ماتَتْ منذ عام وقد أتمّت المائة وقد استراحت من عملها منذ عشرين.
هي وحدها مَنْ جمع الله في قلوبِ أهل القرية مِنْهَا خَوْفًا ولها محبّة واحترامًا، امرأة عجوز يُخبِر هَرَمُهَا عنْ شبابها. حِنّاَءُ مَا حَنَّتْ بها شَعرا كأنّ البَيَاض به برق خَاطف يزدادُ حمرةً كأنّما بالأمس جَمَّلَتْهُ يَدٌ ماهرة، وَجْهٌ مدوّر أبيض كالشّمع يسقيه الذّهب فما امتاز عليه وجه بجمال ولاَ شَاكله حسن. عَيْنَان منهما نور يَتَلألَأ كنور فتيل قدّامه بلّور صاف يضاحك زجَاجًا أَصْفَى منه يقابله فهو فيه قتيل. لم يخطّ الكِبَرُ في خدَّيها حَرْثًا بل خَدَّاها كحرير مطرّزٍ بذهب سرّحته على صدرها. غانية جميلة امرأة عجوز جميلة كأنّ الزمن يزّاور عنها ذات اليمين وذات الشمال فأتاها بالجمال من الجنوب ومن الشمال حَفظه في وَجه كبُسْتَانٍ يُسْقَى فُرَاتًا تَربَّعَ على قامَةٍ هيفاء كَعُودِ رمّانٍ أطرافه أقماع زهرٍ لا تذبُل. يَدَانِ رقيقتانِ نَاعِمتانِ أبدًا نظيفتانِ فيهما أنامل مَسْبوكة سَبْكًا كأنّها النور ينبعث من ثقب مصفوفة إلى جوار بعضها. ما صادفتها امرأة إلاّ قبّلت يديها، بل كادت كالرّضيع تمصّ أناملها، وتخفِت بصرها لِنُور عينها وتحني رأسها أمام رأس لم يسرح به شيبٌ، وتجمع يديها إلى صدرها كالواقفة احتراما أمام قَامَةٍ لم يقوَّس لها ظهر وقد تفرِّجُ بين فخذين كالمنتظرة جسما يهبط أو رَجُلاً بيتها يدخل، إلاّ والدتي فقد كانت تحترمها دون أن تخافها.
ولم يكن ذاك شأن النساء فقط مع العجوز، فحتى الرّجال ما لاَقت منهم عَيْنًا إلاّ انشدّت إلى جَمَال عِنْبَةٍ خضراء رسمت على قطعة بيضاء تحرسها غابة نخيل كأنّ السيّاب منها استوحى بعض صورته. تنشدّ إليها عيون الرّجال ولكنّها سرعان ما تتركها حياء وحِشْمَةً، غير أنّ مِنَ الرّجال مَنْ إذا صَادفها وقف يُحادثها يصدُقُها المودّة والحبّ والاحترام يُغَلّظُ صَوْتَه ويقوّم ظهرَه وينفخ صدره ويحرّك سرواله وإن كان صيْفًا كشف عن أعْلى صدره ليُظهر نبات شعر فيحاول أن يفتله
بأصابع غليظة كأعواد خشب منقورة بمسامير. ومن الرّجال مَن إذا اعترضت طريقه ولم يستطع تحاشيها حَادثها كالهارب من سؤال لا يودّ عنه إجَابَةً أو كالمتيقّن مِنْ أنّ مَا يُخفيه في صدره معلوم في صدر مُحدّثه قد رَآهُ بعينه وغَاصَ فيه بِيَدَيْه فلا يجد في الكلام عَوْنًا يساعده أو عبارة تنقذه مِنْ يَدٍ ماهرة جوّالة ومن عيْن مُبْصِرة ومن لسان ما صَعُبَ عليه كلام.
كلّ رجال هذه القرية كانوا يحبّونها ويحترمونها، وبعضهم يتحاشى طلعتها كالمستحي يتجَنّبُ العيون ويحذر من الكلام ، إلاّ والدي فقد غلبت عليه طبائع الفلاّح فقد كان كثير العمل قليل الكلام لا يعبأ إلاّ بأرضه وما قد تحتاجه لتُعْطِي كما أعطته أمّي فكلّها أرحام تُسْقَى مِنْ أغوار، ولا يهتمُّ إلاّ بداره وما يلزمها فَتَأمن، وبمن فيها بما يستطيع لهم توفيره فَلاَ يشقون. وَاثِقٌ بِأرْضَيْهِ، مطمئنّ فيهما ولهما بِمَا سَقَى يرى الزّرع أمامه بعضه يكبر والآخر مَا زال يحاول أن يظهر رأسه من تحت التراب. فإِنْ صَادَف خَطْوُه خَطْوَتَها سَلَّم ورَحَّبَ سلام المطمئنِّ وترحِيب الوَاثق فأولاده عشرة ذكور كنتُ أَصْغَرَهم وكانت تدعوني "ابن الماشينة" ذلك لأنّي الوحيد الذي فَلَتَ من يديْها ومن أناملها فقد حملتنِي أمّي وَهْنًا على وَهْنٍ وكنتُ عليها عسيرا في جوفها وكأنّي بِرَأْسَيْنِ أو مِنْ ذي الحوافر فأصابها من حَمْلِي مَرَضٌ وتعب فَحُمِلَتْ إلى العاصمة حيث وضعتني تحت عين فرنسية وبِيَدٍ غير مُسْلِمَةٍ وبآلة لا إِحْسَاسَ لها ولا رُوحَ ولا أنامل لطيفة.
كنتُ أقربَ النّاس إليها مُمَازَحَةً وتحرّرَ لِسَانٍ. لا يستر العيب بيني وبينها ساتِرٌ. يُلْقَى الكلام لا يُنْتَقَى خَابَ أو شَانَ أو تَطَهَّرَ وارتقى. لِسَانِي مُنْسَاقٌ إلى كلّ سِيَاقٍ ومَا رَدَّ لِسَانها إلى حَلْقها كَلِمَةً تعيّرني بها، بل كانت تُقَبِّحُ كلامِي بكلام أقبحَ مِنْهُ فأنا في عينها "المَصْنُوعُ" و "الهابطُ بالآلة" و " السّامع اللغط والحروف الهجينة المكسّرة" وأنا "الذي لم يُرْفَعْ الآذان في سمعه حين نزل" فكيف له أن يختارَ لفظا
أو أنْ يستحِي، حتّى أنّه إذا ضمّنا مجلس فيه تفاوت أعمار واختلاط أجناس استدعى الجالسون الحِشمة ولبسوا الحياء واكتحلت عيونهم بالزّور وأَخْفوا مَرَحَ العاشقة يأتي عاشِقُها بيت أهلها فتستلذّ النظر والغزل وتُبدي الحياء والرّصانة. وربّما إذا شاء أحدهم الغَمْزَ في غيره أو أرادت إحداهنّ إثارة غيرها فكاهة أو تفاخُرًا استدرِج بالكلام سبيلا حيث لا رَادَّ للكلام.
كانت تبحث عنّي كلّما نَظَّفت يَدًا مِنْ دَمٍ وما خُلِّطَ به رحم وما دفع، وبعد أن اطمَأنّت إلى صحّةِ وعافيةِ والدةٍ وضعت فأراحتْ وارتاحتْ. وكنتُ لا أستطيع عليها صبرا لِجَمَالٍ استوفى أوصافه ويزيد ولِطَلاَقة لسان ولأشياء أخرى. وكلّما رأيتها سألتها السؤال المألوف من زمن : " كيف هو؟ " فتهمس في أذني ونحن في الجمع تقول : " كِيس مُقَعَّرٌ كالصوف المنقوع في الخَلِّ ومَمَرٌّ للرّيح عريض فَشَارِيه كالماشِي في الطّريق لا يُحِسُّ بِضيقٍ ولا يفرح برَفِيقٍ ولا يلتذّ جسمه بِرَحيق ". فأضحك ضحكا يزيد عن سابقِ ضحكي فتَدَعُنِي زمنا كذلك ثمّ تنقر رأسِي بِنَغَم من أوتار أناملها، ثمّ تضيف :" أمّا الآخر فرأس مفرطحة وفم عريض ورجل مُعَقَّفَة قصيرة ويد معوجّة وعين مائلة ". لذلك ما رَآنِي زوج إحْداهنّ أضحك حتّى أكاد أشهق وأنهق إلاّ غمس بَصَرًا في التّراب وحوّل عنّي عينا كَمَنْ أصابه الحَوَلُ. وما رأتنِي إلاّ ضَمَّـتْ رُكْبَةً إلى رٌكْبَةٍ كأنّي الرّيح فهي من عورة مِنّي تخافني.
كنتُ شابًّا وكانت في الستّين. جميلة يأخذ منها الجمال بعض صِفاتِه ويستجدي منها الحسن شيئًا من نعوته. أتغزّلُ بها وما كنتُ أُحْسِنُ في الغزل قولا فأرمي الكلام رَمْيًا يسخر منه جمالها وألقي العبارات فما تقترب منه، وأستعرض ممّا حفظت وممّا سمعت، فتقول : " وما الذي كنت تسمع في سهرك في الحوانيت ودكاكين العطّارين؟ ". فأقول : " كثيرًا ما سمعتهم يردّدون قولا ينسبونَه إلى ضرير : هو
« يَا صَـاحْبِي لِلزّينْ كِــيل وِ مْعَاييرَهْ
مِنْهَا عْتَايَا الڤُولْ عَاجْزَهْ وِ صْغِيرَه
لَوْ كَانْ في كِلْمَاتْ تِڤْدَرْ عْلِيه مْلَمَّهْ
خَلِّيهْ رَاهُ الزّيِنْ وَصْفْتُــو مَا ثَـمَّــــهْ
خَلِّيهْ ...
خَلِّيهْ وِآمْشِ لِلِّي يْفُوتُـــو بْكِيلُــــــو
و فَارِڨْ لِزِينْ مَا في مْنُّــو مْثِيلــــو »
كانت تستمع إلى هذا القول القروي فتفتَحُ عينا كالرمّانة وتغمز بأخرى كالقحوانة وتفرّج شفتَيْن رقيقتيْن عن لؤلؤ فيَسْتَنِيرُ وَجْهٌ بِقَبَسَيْ نَارٍ. وتنفخ في صدر فتتحرّك تفّاحتان قد تدلّتا في غصن مورق ويانع ما لمسته يد قطّ.
كانت تستمع إلى ذلك في نسوة يعرفن جيّدا أنّ الضرير قد قال فيها ما قد سَمِعَ عنها، ولو كانت له عين لأتْعَبَ نفسا في جمال يفوق غيره (بكيلو)، وليس في النّساء مِنه مثيل ولرأى نعومة يد جَابت في كلّ الأرحام.
ولم يكن في النّاس عجب من قربي من العجوز الجميلة وجُرْأتِي عليها وانبساط لِسانها معي فصِرْتُ إذا رأيت الرّجل عرفت حاله وأحواله ورأيت طعامه وفراشه، بل حتّى مِن العازمين على الزواج مَن كان يجانب الكلام هل هو يسمع في مَن يريد صِفَةً من أمّها قد ترغبه فيها أو تنهره عنها. وصِرْتُ أيضا كلّما رأيت مَنْ في عمري أو أكبر مِنّي بقليل أو أصغر أتثبّت في رأسه وفي فَمِه ويده ورجله فأذكر ما قد قالت لي العجوز. فإن بَدَا لِي طائعًا مُطيعًا وراضِيًا ومستجيبًا ومركوبًا لا يستفزّه مُثير ذكرت قولها : " ذاك كأمّه غير أنّ أمّه تُؤْتَى مِن حيث نزل هو". وإن رأيت عَاصِيًا للناس عصيًّا عليهم، لا يضع يدًا على يدٍ رَاحة أو حَسْرَةً، كافرا بما عند الناس
لا يرضى المؤخّرة مَقْعَدًا، تذكّرت جميل قولها : " ذاك نزل وفي عينه صرامة تتّقد ووهج ملتهب فهو إمّا مقتول بِهَمٍّ وبِنَكَدٍ وإمّا بِيَدٍ جاهلة وماكرة وغادرة". وإن اعترَضَتْنِي عين غائرة، كاشحة، محوّقة بسواد، فيها حولٌ، رموشها كسعف النخيل، هابطة نظرها في أقدامِها، يكحّ كحَّ المستسلِم للعِلّة لا يطلب دواء، صدره منقبض لا يَتَّسِعُ لهواء، إن تحدّث غَمْغَمَ وخَارَ ومَدَّ لِسَنًا وسَدَّ أُذُنًا ولاَنَ للعَصَا، حضرني قولها : " لقد جَاءَ المخاضُ أُمَّه وهي تحمش التنّور بزبل البهائم وروث الحمير وبَعر المواشي وما ينزل من البطون فظنّت وهو ينزل أنّه عُسر بَوْل فامتلأت رِئتاهُ بكلّ ذلك وصاح صَيْحَته الأولى فَجَرَى في فَمِه بَول أمّه فَلِسانُه مَفْطور على ذلك، فهو نَاظر بعيْنِ ومسلول، وربّما لا يجيء المخاضُ إلاّ حيث زُرِعَتْ النّطفَةُ، فَتَحَرَّ في ذلك، فإنْ حَصَلَ، فالزّرع من المواشي".
وإنْ صادَفَنِي فَمٌ عَرِيضٌ لا تستطيع شفةٌ أنْ تُخْفِي عِظَامًا ولا تقدر على رَدِّ لِسان، مُنْفَرِجُ الفَمِ إلى شحمة الأذن، لاَ رِئَةَ له ولاَ رُوحَ، يَسْحَبُ الهواء بأذنيه ويطرده من فَمِهِ كبعض آلاتِ الموسيقى يُنْفَخُ فيها فتطلق أصواتا أتانِي قولها : " وَضَعَتْه أُمُّهُ في سُوقٍ. كانت تبيع الماء في جَرَّةٍ تملؤها من مجمَّع ماء تُسْقَى به الدواب، فهو بُوق من أبواق الجحيم، مُكَبّر لأصوات غيره، مَمَرُّ لِريح الآخرين، تصُمّه الأصوات فلا يَعيها، تاجِرٌ على حَرْفٍ، بيّاع ومُباعٌ، سَهْلٌ كالطريدة الضعيفة، قذر اللّسان واللّحم. عقله في كفّه يُقَادُ إلى كلّ الثنايا ".
تحضرني كلّ هذه الأقوال وغيرها وأقبح مِنها بكثير. وأنظر في الناس اليوم وأنا في الستّين أيضا فما أرى إلاّ خُلَاصَةَ ما كانت تقول تلك العجوز التي ما فلت رَحم امرأة من أناملها تجبد مِنه رأسًا مُفَلَّجَةً كالقرعة الناضجة، أو صدرا منتفخا بالرّيح أو
عريضا أو رِجلا كَعْبُها إلى الأمام أو يَدًا مقرونة الأصابع أو أذنا طويلة قائمة. أرى كلّ ذلك الآن في هذا المكان الذي يزعم أنّه يتحرّك وفي هذا الزمان الذي يَدَّعِي أنّه يتحوّل. وأحاول أن ألتقط أحداثا فَمَا أرى إلاّ هَديرًا في فَمِ قُلّةٍ مملوءة بماء آسنٍ وبهواء رطب كأنّه من ريح المزابل. قُلّة تشرب مِنها كلّ الأجيال في كلّ مكان وزمان، يُخَيَّلُ في كُلِّ صَبّة شربة هديرٌ قوي ويُتَوهّم فيها رَعْدٌ وبَرْقٌ. وَهْمٌ يأكل وَهْمًا. أجيال متعاقبة لها نفس الرأس والعين والرّجل واليَد والفَم فيها من كُلِّ ما قالت المرأة العجوز. تَضربها الرّيح من كلّ الجهات فلا تتحرّك إلاّ الأغصان اللّينة فتُكْسَر سريعا لا تخطّ خَطًّا في حَدَثٍ وتدّعي في أنفاسها الرّعودَ والعواصفَ. أرى كلّ ذلك فأعرفُ الأسباب...أرى كلّ ذلك الآن فأقول : " هل كانت مُجرّدَ "وَلاَّدَةَ" نساء أم كان فيها من النبوءة...رحم الله تلك العجوز العارفة..." وطويتُ الوَرَقَ ما رأيتُ حَدَثًا في الناس يستحِقُّ قَلَمًا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق